القاهرة - سبوتنيك. بمجرد أن تطأ قدماك الأحياء الشعبية في القاهرة، كحي السيدة زينب، وباب الشعرية، والحسين، ستستشعر الروحانيات الخاصة بتلك المناسبة، وستلفت أنظارك بلا شك، الأضواء الملونة في الشوارع، وصوت الأناشيد الدينية القادمة من مكبرات الصوت، والسرادقات المحتضنة للأشكال المتباينة من "عروسة المولد".
أجرت "سبوتنيك" جولة تحدثت فيها إلى الحاجة علياء، بائعة الحلوى، التي قالت إن "الاحتفال بالمولد النبوي في حي السيدة زينب له شكل يختلف عن غيره من الأماكن وعن كل البلدان خارج مصر".
وأكدت أن المصريين ما زالوا ينتظرون الاحتفال بالمولد النبوي، مستدركة: "ولكن الإقبال أصبح ضعيفا على شراء الحلوى والعرائس بسبب تزامن موعد الاحتفال هذا العام مع بدء العام الدراسي".
وبالجوار، يجلس الحاج عطية، على مقعد خشبي أمام محله، متمايلا بجسده مع الأناشيد الدينية، في حركة تلقائية كالصوفيين، وعدّد الأسعار المختلفة "لعروسة مولد النبي"، حيث قال إن "العروسة السكر - وهي أول عروسة عرفها المصريون كمظهر أصيل لهذا الاحتفال- تبدأ من 50 جنيها، وتتدرج لتصل إلى 100 جنيه للعروسة الصامتة، و200 لتلك التي تعمل بالكهرباء، في حين يصل سعر التي تصدر أصوات غنائية، أو ذات فستان الزفاف الأبيض، إلى 500 جنيه، فأكثر".
ولفت الحاج عطية إلى أن تلك العرائس تصنع جميعها بشكل يدوي، من خيوط ومواد معينة لعمل الشعر الخاص بالعروسة والجسم القائم على حديد، والأزياء الخاصة بها المزينة بالنقوش والورود المختلفة، تخرج في صورها من أزقة "درب سعادة" و"درب البرابرة" وغيرها بمصانع في حي باب الشعرية.
وعلى بعد خطوات نجد زحاما شديدا عند أحمد محمد، الذي يبيع للزبائن علبة "حلاوة المولد" بأسعار تناسب إمكانيات الجميع، ويتم تعبئة محتويات العلبة طبقا لاختيار المشتري، وتبدأ من 65 جنيها.
ووسط الزحام، قالت السيدة أمل لـ"سبوتنيك"، إنها ما زالت تُقدم على شراء حلوى المولد النبوي لما تركته تلك العادة من أثر في نفسها، قائلة: "حلاوة المولد من عادات زمان. أنا نشأت على شراء حلاوة المولد والعرائس".
وأكدت أمل أن سعر علبة الحلوى مناسبة، في حين أنها للتو كانت عند أحد المحال ذات الأسماء المشهورة في مصر، والتي تعلن عن 400 جنيه [حوالي 20 دولار]، كأقل سعر لشراء علبة حلوى.
وضربت أمثلة على أنواع الحلوى المحببة لها، كـ"الفولية والسمسية والملبن"، كما قارنت بين عروسة المولد الآن والعروسة السكر قديما، معتبرة الأخيرة الأفضل لها، "خاصة وأن العرائس الآن ليست لها دلالة ولا تضفي قيمة"، وفق تعبيرها.
ومن جهتها اختلفت، سماح، المقيمة بحي السيدة –والتي تشتري عروسة هذا العام لخطيبة ابنها- في الرأي، حيث تؤيد شراء العروسة الحديثة بديلا عن السكر، قائلة: "عروسة السكر القديمة كانت تجذب الحشرات مع طول مدة التخزين حتى تصنع منها الأمهات لاحقا أطباق المهلبية.. أما الآن فيمكن الاحتفاظ بها لسنوات".
وفي السياق ذاته، حلل رئيس اللجنة الاستشارية العليا لأطلس المأثورات الشعبية، مسعود شومان، سبب اهتمام المصريين بالاحتفال بالمولد النبوي وطريقة تمحوره حتى وصل لهذا الشكل، بأنه "شعب احتفالي بطبعه".
وأوضح أن المجتمع المصري يجمع كل مناسبة بأطعمتها الخاصة سواء دينية أو عامة، مستكملا بالقول: "شعب نقدر نسميه أكيل وذواق... واختار الحلوى كون هذه المناسبة تضفي على الحلوى نوعا من البركة أو هكذا يعتقدون، كما أن لها علاقة بالوضاءة والجمال عند الرسول".
كما رأى أن الاحتفال مصري خالص، يرتبط بعرق جوهري من التراث القديم مع تطوير لشكل العروس وأنواعها، على الرغم من احتفاظ الريف بالعروس السكر.
وفيما يتعلق بمرجعية هذا الاحتفال ونسبه للفاطميين، أشار شومان إلى أن الجزء الخاص بالعرائس والأيقونات أقدم من وجود الفاطميين، متابعا: "نعم تميزت عصور الفاطميين بالبهجة، إلا أن الأصل في ذلك يعود لمصر".
ولفت إلى أن هذا النوع من صناعة الحلوى قديم، يرتبط بجزء تراثي مهم، ويتجلى ذلك في الحصان أو العروسة، حيث تدل العروس على النساء المصريات القديمات، مثل حتحور، وإيزيس، أو مريم العذراء والسيدة زينب، كرموز نسائية مقدسة.
وذكر أن إعادة تجسيد تلك الرموز تنبع من فكرة الاحترام والتوقير، وكما هو الحال، يرمز الحصان إلى شخصيات شعبية مؤثرة مثل مار جرجس، وأبو زيد الهلالي، وباقي الفرسان.
وبسؤاله عن تضمين رموز مسيحية، شدد شومان على أن التراث الشعبي لا يفرق بين الأديان، وأنه أقدم من فكرة الدين أصلا، وهو يأتي تأكيدا لفكرة المساندة والترابط العميق بالتراث والتاريخ.
واستدل بوجود أقباط يصطفون لشراء حلوى المولد كما يشاركون في صنع كعك عيد الفطر، في الوقت ذاته يذهب المسلمون إلى موالد العذراء ومار جرجس.
وعلى الصعيد الفني، قال الناقد السينمائي عصام زكريا، لـ"سبوتنيك"، إن أفلاما مثل "الشيماء، وفجر الإسلام، والرسالة"، شكلت جزءا وذكريات للمصريين مع المولد النبوي، ولكنها تناولت الفترة الأولى للإسلام ولرحلة النبي ومعاناته، وإنما لم ترصد طريقة الاحتفال المصرية الفريدة بالمولد.
وأكد زكريا أن الاحتفال بالمولد في مصر له طريقة خاصة كانت تستدعي من السينما في مصر أن تتطرق لها، ولكنها لم تُقدم بشكل كافي، متابعا: "هي نقطة قصور لدينا في تقديم الفلكلور المصري بشكل درامي، يبرز ويوثق العادات والتقاليد".
وأضاف أن السينما في مصر لم توثق لهذا، رغم 100 عام تصوير سينما، لافتا إلى أن هناك مظاهر توثيقية بالأفلام التسجيلية وليست الروائية، رصدت تصنيع عروس المولد وتعبئة الحلوى.
واختتم زكريا: "نحن نتحدث عن ضرورة توثيق وحضور هذا التاريخ في حياتنا اليومية، وفي الاحتفالات والطقوس".