إن حجم الناتج الإجمالي المحلي للعالم – مؤشر قياس حجم الاقتصاد العالمي – الذي تجاوز عتبة الـ100 تريليون دولار لتوه هذا العام، من غير المتوقع أن يذهب بعيدا في عام 2023، حيث تعرقل السياسات النقدية فرصة التوسع وتضع قيودا على طموح الأنشطة التجارية للنمو.
يدفع الوضع المتأزم عالميا على الصعيد الاقتصادي بسبب تفاقم معدلات التضخم- البنوك المركزية إلى مواصلة نهجها المتشدد من أجل احتواء الضغوط التصاعدية في أسعار السلع التي شكلت ضربة موجعة للظروف المعيشية في أنحاء العالم.
ومع ذلك، فإن هذه التوجهات ستحتاج إلى بعض الوقت قبل أن يلمس أثرها، وبمعنى آخر، فإن الضغوط التضخمية قد تستمر في عام 2023 أو على الأقل في بعض مناطق العالم، قبل أن تبدأ في الهدوء.
تضخم تاريخي
في حين أن معدل التضخم في أكبر اقتصاد في العالم، هدأ خلال نوفمبر/ تشرين الثاني إلى 7.1% من ذروة 9.1% التي وصل إليها في يونيو/ حزيران هذا العام، فإنه لا يزال عند مستويات أعلى من تلك التي شهدتها الولايات المتحدة منذ أوائل الثمانينيات.
التضخم الجامح في الولايات المتحدة، دفع الاحتياطي الفيدرالي هذا العام إلى رفع أسعار الفائدة بوتيرة حادة بلغت 425 نقطة أساس، منها أربع عمليات رفع بمقدار 75 نقطة أساس دفعة واحدة، وهذا ينعكس بدوره على أسعار الصرف حول العالم، لا سيما الدول الناشئة، التي تحظى بظروف هاشة للحفاظ على النقد الأجنبي.
في منطقة اليورو، ورغم تراجع التضخم لأول مرة منذ 17 شهرا في نوفمبر الماضي، مسجلا نحو 10%، فإن لا يزال بالقرب من أعلى مستوياته على الإطلاق الذي سجله في أكتوبر/ تشرين الأول عند 10.6%، لتواصل أوروبا صراعها مع ارتفاع تكلفة المعيشة وتكاليف الطاقة الباهظة في خضم موسم التدفئة.
في بريطانيا أيضا تراجع التضخم إلى 10.7%، لكنه يظل بالقرب من أعلى مستوياته في أكثر من 4 عقود، وتواصل الأسر دفع المزيد والمزيد من الأموال مقابل الحصول على الغاز والكهرباء والغذاء، رغم برامج الحكومة لاحتواء الضغوط التضخمية.
حتى في اليابان صاحبة ثالث أكبر اقتصاد في العالم، والتي كان التضخم المرتفع ظاهرة غائبة عنها طيلة العقود الماضية، بلغ معدل ارتفاع الأسعار السنوي 3.7% في نوفمبر، وهو أعلى مستوى له منذ 40 عاما على الأقل.
في روسيا، بلغ معدل التضخم 12.7% في ديسمبر/ كانون الأول، وهو أقل بكثير من ذروة 17.8% التي سجلها في أبريل/ نيسان الماضي، مع فرض العقوبات الغربية على موسكو، لكنه يظل أعلى بكثير أيضا من مستهدف البنك المركزي البالغ 4%.
حتى الاقتصادات الناشئة والنامية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا شهدت ارتفاعا ملحوظا، وجامحا في بعض الحالات، لمعدلات التضخم تأثرا بموجة الزيادة في أسعار السلع الأساسية العالمية وضغوط سعر الصرف.
وسط كل هذا، ربما كان الصين هي الاقتصاد الأكثر هدوءا على صعيد نمو الأسعار، لكن ذلك ربما لن يدوم طويلا، خاصة بعد قرار بكين بالتخلي عن سياسة "صفر كوفيد" التي أبقت الكثير من المدن مغلقة وفرضت قيود مستمرة على الحركة لكبح انتشار العدوى.
ما المتوقع الآن؟
في الحقيقة، التوقعات ليست دائما المفتاح لفهم ما قد يحدث في المستقبل، نظرا لأنها عادة ما تبنى على الظروف والمعطيات الحالية، والتي بطبيعة الحال يمكن تتغير مع تقدم الوقت.
على سبيل المثال، لم تكن موجة التضخم الحالية متوقعة بهذه الشدة. نعم، كانت التوقعات بنمو التضخم حاضرة قبل بداية 2022، لكن ساهمت عوامل في تأجيج النتائج الفعلية، ومنها الأزمة الأوكرانية وتقلبات أسعار الصرف وأسواق السلع الأساسية واستمرار اختناق سلاسل التوريد.
حتى مع اندلاع الموجة الحالية للتضخم، كان يعتقد العديد من الاقتصاديين، بمن فيهم خبراء مجلس الاحتياطي الفيدرالي، أن التضخم سيكون "مؤقتا"، وسوف ينحسر خلال عام 2022، مع حل مشكلات سلسلة التوريد وتباطؤ الإنفاق الناس في إنفاقهم.
لكن من يعرف يقينا ما سيحدث ومتى سيحدث؟ بالطبع لا أحد، وبالتالي تظل توقعات المحللين ضرورة للاسترشاد بشأن المستقبل وتشكيل السياسات ووضع الخطط الاقتصادية، ويشمل ذلك على سبيل المثال، تحريك أسعار الفائدة من قبل البنوك المركزية، ووضع البرامج الإنفاقية للحكومات والشركات والأفراد.
هل القادم أفضل؟
الإجابة السريعة والوحيدة لهذا السؤال هي "ربما"، لأن الأفضل على صعيد التضخم ونمو الأسعار قد لا يعني بالضرورة الأفضل على صعيد النشاط الاقتصادي.
في حين أنه من المتوقع أن تبدأ معدلات التضخم في الهدوء خلال العام القادم على أن تتراجع بشكل ملحوظ بنهايته، فإنها لن تعود إلى طبيعتها في مناطق كثيرة إلا بحلول 2024 على الأقل، وفي غضون ذلك ستساهم إلى جانب السياسات المشددة في تقويض النمو.
يقول صندوق النقد الدولي إن النشاط الاقتصادي العالمي يشهد تباطؤا واسع النطاق وأكثر حدة من المتوقع، مع ارتفاع معدل التضخم عما كان عليه منذ عقود. ويرى أن أزمة تكلفة المعيشة، والأوضاع المالية المتشددة في معظم الدول، والأزمة الأوكرانية، واستمرار الجائحة، عوامل تؤثر بشكل كبير على التوقعات.
ويتوقع الصندوق أن يتباطأ النمو العالمي من 6% في عام 2021 إلى 3.2% في عام 2022 و2.7% في عام 2023. وهذا هو أضعف معدل نمو منذ عام 2001 باستثناء الأزمة المالية العالمية والمرحلة الحادة لوباء "كوفيد -19".
وعلى صعيد التضخم، يتوقع الصندوق أن يرتفع معدل التضخم العالمي من 4.7% في عام 2021 إلى 8.8% في عام 2022، ولكنه سينخفض إلى 6.5% في عام 2023 وإلى 4.1% بحلول عام 2024.
ونصح بأن تستمر السياسة النقدية في مسار استعادة استقرار الأسعار، وأن تهدف السياسة المالية إلى التخفيف من ضغوط تكلفة المعيشة مع الحفاظ على موقف حازم بما فيه الكفاية يتماشى مع السياسة النقدية.
في هذا السياق، قال مركز أبحاث الاقتصاد والأعمال البريطاني، إن العالم يواجه ركودا في عام 2023، حيث تؤدي تكاليف الاقتراض المرتفعة – التي هي بالأساس محاولة من البنوك المركزية لمعالجة التضخم - إلى انكماش عدد من الاقتصادات.
وذكر المركز، الذي يقدم خدماته كشركة للاستشارات، في تقريره السنوي لرابطة الاقتصاد العالمي، إن الناتج المحلي الإجمالي العالمي تجاوز 100 تريليون دولار لأول مرة في عام 2022، لكنه سيتوقف عن النمو في عام 2023 مع استمرار صانعي السياسات في معركتهم ضد ارتفاع الأسعار.
وأضاف التقرير: "المعركة ضد التضخم لم تحسم بعد. نتوقع أن يلتزم محافظو البنوك المركزية بأسلحتهم في عام 2023 رغم التكاليف الاقتصادية. إن تكلفة خفض التضخم إلى مستويات أكثر راحة (تعني) توقعات نمو أضعف لعدد من السنوات القادمة".
حذر المركز قبل نحو شهرين من أن أكثر من ثلث الاقتصاد العالمي سوف ينكمش، وأن هناك فرصة بنسبة 25% لنمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنسبة أقل من 2% في عام 2023، وهو ما يُعرف بأنه ركود عالمي.
تأكيدا لهذه التوقعات، قال تحليل أجرته "بلومبيرغ إيكونوميكس" إن الاقتصاد العالمي يواجه "واحدة من أسوأ سنواته منذ ثلاثة عقود"، حيث تستمر صدمات الطاقة وكذلك التضخم المتفاقم في كل مكان علاوة على تشديد السياسات النقدية، في التأثير على الأداء.
وفي التحليل الجديد، توقع الخبير الاقتصادي سكوت جونسون تسجيل معدل نمو بنسبة 2.4% فقط خلال عام 2023، وهذا أقل من 3.2% هذا العام والأدنى - باستثناء سنوات الأزمة في 2009 و2020 – منذ عام 1993.
وستكون هناك تغيرات متباينة، حيث تشهد منطقة اليورو في بداية عام 2023 حالة ركود، والتي تتكرر في الولايات المتحدة لكن في نهاية العام. وعلى النقيض من ذلك، من المتوقع أن تتوسع الصين بأكثر من 5%، مدعومة بنهاية أسرع من المتوقع لاستراتيجية "صفر كوفيد" ودعم سوق العقارات الذي ضربته الأزمة.