هي حال أطفال الشوارع في تونس الذين اقتلعتهم الحاجة من بيوتهم الآمنة وألقت بهم على قارعة الطرقات، حيث يواجهون حاضرا ملؤه المعاناة وينتظرون مستقبلا مجهولا لا يختلف عادة عن ماضيهم.
التسول... طريقهم للقمة العيش
في شارع رئيسي مكتظ في قلب العاصمة يتكئ غيث، ذو الرابعة عشر ربيعا على جدران جامع "الفتح" الذي يقصده المئات من المصلين في اليوم. يطمع الصبي في أن تحن قلوب المصلين وتغيثه ببضعة نقود يقول إنها لا تكفيه في كثير من الأحيان لشراء ما يسكت جوعه.
لا يعرف غيث الراحة أو الدفء في الشتاء، يلبس رداءً ربيعيا خفيفا ممزق الكمّين بالكاد يستر جسده النحيل، يقترب من المصلين وهم يهمون بالخروج من المسجد ويهمس لهم بكلمات لاستعطاف رحمتهم، من قبيل "رجاء يا عمي القليل من النقود"، ويضيف إليها ما تيسّر من الدعاء والتمني بحياة أفضل لهم.
يتحدث غيث لـ "سبوتنيك" بصعوبة وبكلمات مقتضبة عن الوضع الذي قاد به إلى التسول في الشوارع ومغادرة بيته في هذه السن التي من المفترض أن يزاول فيها دراسته على غرار أقرانه. يقول "تركت الدراسة في عمر العاشرة.. لا أحب أن أدرس فعليّ جني المال".
ويضيف "توفي والدي منذ أربع سنوات، ومنذ ذلك الحين تعيّن علي جلب المال لإعالة أمي وأختي الصغرى".
ضحايا لعنف الشارع
غير بعيد عن جامع "الفتح"، تقف زينب (16 سنة) كما أسميناها، قرب محطة المترو الخفيف ممسكة علبة مستطيلة الشكل بها مناديل ورقية وقطع من العلكة. تنادي بصوت أنثوي خدشه الصراخ المستمر وقسوة الشارع لتُبلغ الركاب أسعار بضاعتها التي تبيعها بأثمان زهيدة.
بنبرة ملؤها الحزن والخجل، تخبر زينب "سبوتنيك" أنها تتعرض يوميا إلى شتى أنواع الشتائم بسبب إلحاحها المستمر على المارين لإقناعهم بشراء بضاعتها، وتؤكد أن الأمر يتطور أحيانا إلى تحرش جنسي.
وتقاوم زينب قساوة الشارع ونظرة العابثين بألبسة ذكورية فضفاضة تخفي بها الكثير من أنوثتها. إنها تحمي نفسها بكل الوسائل الممكنة، وهي لا تخفي خوفها من مفاجآت الشارع غير السارة.
تضيف:
"التواجد في الشارع أيسر بكثير بالنسبة للذكور، فشوارع العاصمة تتحول إلى مكان مخيف خاصة في الليل". وهي اعترافات ليست بالهينة على طفلة تستعد لاستقبال فترة المراهقة.
تبدأ زينت رحلتها منذ الساعة السادسة صباحا وأحيانا قبل ذلك، تختار الأماكن المكتظة مثل محطات النقل والمقاهي والمطاعم أو المحلات التجارية. وتؤكد أنها لا تحصل سوى على بضعة دنانير تتقاسمها مع رجل يزودها يوميا بالبضاعة.
وتؤكد العديد من المنظمات الحقوقية وحتى الجهات الرسمية أن أطفال الشوارع تحولوا إلى لقمة سهلة في فم المتاجرين بفقرهم وحاجتهم إلى المال، حيث يجري توظيف بعضهم في شبكات التسول، وأحيانا في شبكات السرقة وبيع المخدرات.
وتصل أصناف الاستغلال إلى استعمال الأطفال الرضع من قبل المتسولين كوسيلة لجذب المارة واستعطاف رحمتهم لكسب مزيد من المال، ويعمد بعضهم لاستئجار رضع ليسوا من ذويهم.
أعدادهم في تزايد
يؤكد رئيس الجمعية التونسية للدفاع عن حقوق الطفل، معز الشريف، في تصريح لـ"سبوتنيك"، أن ظاهرة الأطفال في وضعية الشارع تتجه إلى مزيد من التفاقم، مشيرا إلى أنهم يعايشون شتى أنواع الاستغلال.
وقال:
"يكفي أن تلقي نظرة عابرة على الشوارع في شتى المحافظات حتى تعرف حجم معاناة هؤلاء وتعي أن أعدادهم في تزايد مستمر"، مشيرا إلى أن الإحصاءات تؤكد أيضا انتشار أطفال الشوارع من الجنسيات غير التونسية ناهزت أعدادهم 400 طفل سنة 2022، جميعهم من فاقدي السند.
وبيّن الشريف أن أطفال الشوارع ينقسمون إلى ثلاث فئات: فئة أولى تتواجد في الشوارع ظرفيا ولم تقطع صلتها بعائلتها وبالمؤسسات التربوية، وفئة ثانية قطعت صلتها كليا بالمؤسسات التربوية ولكنها ما زالت تتواصل مع عائلاتها، وفئة ثالثة يقول إنها الأكثر هشاشة هي التي قطعت صلتها كليا بالمؤسستين الأسرية والتربوية.
وتشير إحصاءات وزارة التربية التونسية، إلى أن 30 ألف تلميذ يغادرون سنويا مقاعد الدراسة بشكل نهائي، وهي ظاهرة تقول الوزارة إنها تهدد مستقبل الأطفال والشباب وتعرضهم لشتى المخاطر على غرار الهجرة غير النظامية والمخدرات ومختلف السلوكات المحفوفة بالمخاطر.
ويؤكد الشريف أنه "بالإضافة إلى الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية، يعاني أطفال الشوارع من هشاشة نفسية كبرى بسبب افتقادهم إلى شتى أنواع الدعم".
وفي تصريح أدلت به لـ"سبوتنيك"، قالت وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة أمال موسى إن أكثر من 2300 طفل في تونس مهدد لهذه الظاهرة. وأكدت أن مندوبيات حماية الطفولة تلقوا سنة 2022 1750 إشعارا تتعلق بالإهمال والتشرد وأكثر من 500 إشعار تتعلق بتعريض الأطفال إلى التسول والاستغلال الاقتصادي.
وأضافت "تفاقمت هذه الظاهرة بمعدل 10 بالمائة عن السنة التي قبلها، وهي تشمل الرضع الذين يتم اصطحابهم من طرف الأولياء وأيضا الأطفال في سن المراهقة".
مراكز تنجد أطفال الشوارع
تقول وزيرة المرأة والأسرة والطفولة إن الوزارة تنظر بعين القلق إلى هذه الظاهرة التي وصفتها بالمزعجة، مشيرة إلى أنها تعمل منذ أشهر على وضع خطة وطنية "لتونس دون أطفال في وضعية الشارع" بغاية الحد من هذه الظاهرة.
وأكدت أنها بدأت في تفعيل هذه الخطة بتركيز 3 فضاءات صلب مراكز حماية الطفولة بكل من منطقة "الحفصية" و"حي التضامن" و"الكرم" بالعاصمة بطاقة استيعاب تناهز 150 طفلا يوميا.
وأوضحت الوزيرة: "ستتكفل هذه المراكز بالتعهد النهاري بالأطفال في وضعية الشارع، وذلك بتمكينهم من مجموعة من الخدمات تتوزع بين الإعاشة والإنصات والرعاية النفسية والصحية والتربوية".
وأشارت إلى أن هذا المشروع سيتكفل أيضا بالبحث عن مسارات بديلة للأطفال الذين انقطعوا عن الدراسة ووجدوا أنفسهم في وضعية الشارع، من أجل حمايتهم من مخاطر الشارع ومن وضعية الفراغ واللا مستقبل.
وقالت موسى إن هذه المبادرة ستتوسع تدريجيا لتشمل التعهد النهاري والليلي بهذه الفئة وتتجه إلى مناطق أخرى تنتشر فيها هذه الظاهرة.