وتقترح إيطاليا منح تونس دفعة أولى من القرض (ما يعادل 300 مليون دولار) على الفور، من أجل مساعدتها على الالتزام بتعهداتها الداخلية وتخفيف وطأة "الأزمة المالية الهائلة" التي تتخبط فيها البلاد منذ مدة.
في المقابل، تشترط الحكومة الإيطالية أن يقع تسريح الدفعات المالية المتبقية في حال سجلت الحكومة التونسية تقدما في تنفيذ برنامج الإصلاحات الذي عرضته على صندوق النقد الدولي العام الماضي.
وتبرّر إيطاليا هذه المساعي بأن أوروبا "معرضة لخطر وصول موجة ضخمة من المهاجرين إلى سواحلها من شمال أفريقيا في حال عدم تحقيق الاستقرار المالي في تونس".
وبدأت إيطاليا بالفعل في عقد مشاورات واتصالات مكثفة مع عدد من الدول من بينها الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وآخرها الجزائر، بهدف تأمين الدعم المالي لبلد تقول إنه يمثل "فاعلا مركزيا لأمن واستقرار منطقة البحر الأبيض المتوسط".
تغيّر غير بريء في الموقف الأوروبي
ويؤكد المحلل السياسي، بالحسن اليحياوي لـ "سبوتنيك"، أن المشاورات الإيطالية أتت أكلها، مشيرا إلى وجود تغيّر في الموقف الأوروبي تجاه الأوضاع في تونس خلال الفترة الأخيرة.
وقال: "تسعى إيطاليا إلى التأثير في مواقف دول المنطقة، خاصة وأنها تمثل الواجهة الأساسية لعمليات الهجرة الغير الشرعية التي تنطلق من السواحل التونسية باتجاه شواطئها".
ويشدد اليحياوي على أن الحرص الإيطالي على محاولة الضغط على الدوائر المالية لتمكين تونس من قرض مالي، لا ينطلق من إيمانها بحاجة الدولة التونسية إلى حل مشكلة السيولة وحاجة شعبها إلى تنمية عادلة ومستدامة، وإنما هو موقف مبني على مصلحة وحيدة وهي إيقاف تدفقات الهجرة.
ويرى اليحياوي أن أوروبا لا ترى في تونس سوى حارسًا لحدودها، مشيرا إلى أن هذه النظرة تنسحب على دول شمال أفريقيا على غرار المغرب والجزائر بدرجة أقل.
وأضاف: "تغير الموقف الإيطالي يفسره كذلك تغير مواقع القرار التي أصبحت بيد اليمين السياسي الذي عرف بممارسة النفاق السياسي".
وأوضح: "تدرك إيطاليا جيدا أن المؤسسات الصغرى والمتوسطة في ظل الأزمة العالمية الموجودة حاليا، وفي ظل ارتفاع أسعار الطاقة بعد العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، لا يمكنها أن تعيش في غياب اليد العاملة المتأتية من الهجرة والتي تقبل بأجور زهيدة ولا تطالب بحقوقها".
وقال اليحياوي إن هذه المؤسسات الإيطالية والأوروبية عموما تستغل المهاجرين الغير الشرعيين لضمان استمراريتها، ومع ذلك تواصل السلطات الإيطالية في ممارسة البروباغندا والتحذير من جحافل المهاجرين القادمين إليها من السواحل الأفريقية.
ولفت اليحياوي إلى أن "المواقف الإيطالية والأوروبية ليس مبدئية وإنما هي مبنية على تحقيق مخطط يخدم مصالحها الضيقة وهي إيقاف تدفقات المهاجرين وإقامة مراكز فرز في السواحل الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط في تونس، لاختيار العناصر المناسبة للعيش في أوروبا وإقامة مستوطنات إذا لزم الأمر أو مخيمات، حتى لا يقال أن هؤلاء لاجؤون ولم يتم استقبالهم ووقع إعادتهم إلى بلدانهم قسرا".
ويرى اليحياوي أن هذه المصلحة تفسر تغير خطاب العديد من الأقطار الأوروبية تجاه تونس التي كانت تنتقد الأوضاع داخلها، خاصة على المستوى الحقوقي وتهدد قبل أسابيع بقطع المساعدات عنها.
وأضاف: "لقد أدركت البلدان الأوروبية اليوم أنها يجب أن تحتوي النظام الجديد في تونس بقيادة الرئيس قيس سعيد، مستخدمة في ذلك سلاح المساعدات المالية، بعد أن أيقنت أن عودة حلفائها إلى صنع القرار السياسي أصبح أمرا مستحيلا".
وأعلن نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية الإيطالي، أنطونيو تاياني، الاثنين الماضي، أن بلاده مستعدة لإرسال مساعدات تبلغ 100 مليون يورو إلى تونس، منها 50 مليونًا ستخصص لفائدة الشركات الصغرى والمتوسطة المحلية.
ملف الهجرة... الهاجس الأول لأوروبا
بدوره، يشير المحلل السياسي مراد علالة، في تصريح لـ "سبوتنيك"، إلى أن الموقف الإيطالي منسجم مع توجهات الحكومة الجديدة ورئيستها اليمينية، جورجيا ميلوني.
وقال علالة إن "هذه الحكومة تريد تغليب مصلحة إيطاليا بقطع النظر عن مصلحة شركائها في بقية دول الاتحاد الأوروبي"، مشيرا إلى أن مصلحة إيطاليا تتمثل في تحويل تونس إلى حارس لحدودها البحرية.
ولفت علالة إلى أن الحكومة الإيطالية تدرك جيدًا أنه لا يمكنها بلوغ هذه الغاية دون تحقيق الاستقرار الاقتصادي في تونس، وهو ما يفسر حرصها الشديد على دعم مفاوضات تونس مع صندوق النقد الدولي والتسريع في حصولها على القرض المقدر بـ 1.9 مليار دولار.
وتابع: "في سبيل ذلك، تبدي إيطاليا استعدادها حتى لغض الطرف عن الأزمة السياسية وتجاهل التحفظات التي أبدتها سابقا بشأن الوضع الحقوقي في تونس، وهو موقف ينسحب على دول أخرى على غرار فرنسا وحتى الولايات المتحدة الأمريكية، التي شدد سفيرها مؤخرا على ضرورة الفصل بين المسارين السياسي والاقتصادي".
من جانبه، يرى النائب السابق عن دائرة إيطاليا، مجدي الكرباعي، أن مسألة الحريات والديمقراطية لا تعني إيطاليا التي تهتم بمسألة وحيدة وهي تحويل دول شمال أفريقيا ومنها تونس إلى نقاط حدودية متقدمة لتجميع المهاجرين ومن ثمة ترحيلهم.
وأضاف، في تصريح لـ "سبوتنيك": "مقابل ذلك تعرض إيطاليا خدماتها على تونس سواء من خلال تقديم المساعدات المالية لها بطريقة مباشرة، أو حشد الدعم الدولي بشأن اتفاقها مع صندوق النقد الدولي، وهو ما باشرت فيه رئيسة الوزراء الإيطالية التي انتقلت أخيرًا إلى الإمارات وطلبت منها دعم تونس بما يقارب 500 مليون دولار من أجل إنقاذ اقتصادها، وهو نفس الطلب الذي توجهت به إلى أمريكا وبقية دول الاتحاد الأوروبي وحتى إسرائيل من أجل معاضدة تونس في ملفها أمام صندوق النقد الدولي".
ويرى الكرباعي أن إيطاليا تسعى بكل الطرق إلى تجنب تدفق المهاجرين إلى أراضيها في حال تفاقم الأزمة الاقتصادية في تونس، من ضمنها ما تحدث عنه وزير الداخلية الإيطالي، الذي قال إن إيطاليا ستقوم بتدريب أمنيين تونسيين من أجل قيامهم بدورهم في حماية الحدود، وبعث دوريات مشتركة برية وبحرية من أجل منع المهاجرين الغير النظاميين من عبور المتوسط، وتركيز نقاط استخباراية في ميناء صفاقس من أجل فك العصابات الإجرامية التي تقف وراء الهجرة الغير النظامية، مع مواصلة تجديد اتفاقيات الترحيل القسري لتشمل الرحلات البحرية والبرية".
الجزائر تدخل على خط المفاوضات
ولم تقتصر المشاورات التي تقودها إيطاليا على الجانب الأوروبي ودول الغرب، بل شملت حتى دولا عربية على غرار الإمارات والجزائر. إذ كشفت وكالة "نوفا" الإيطالية عن وجود اتصالات مكثفة بين السلطات الإيطالية والجزائرية، من أجل الدفع نحو بلورة مبادرة لإنقاذ تونس من "كارثة مالية مرتقبة".
وفي هذا الصدد، أكد الكرباعي أن هذه الاتصالات تندرج ضمن ما تسميه إيطاليا بـ"ملتقى أصدقاء تونس" الذي تسعى من خلاله إلى جمع مساعدات مالية بهدف دفع تونس إلى الخروج من أزمتها المالية.
ويرى المحلل السياسي مراد علالة أن مقومات نجاح المشاورات الإيطالية والجزائرية متوفرة على اعتبار أن الأمر يتعلق بشريكين دوليين تربطها حدود مشتركة مع تونس ومصالح اقتصادية واجتماعية.
وتابع: "من الجانب الجزائري هناك استعداد واضح لدعم تونس خاصة من طرف الرئيس عبد المجيد تبون، الذي أكد مرارا أن تونس والجزائر شعب واحد في دولتين. وهو أمر ينسحب على إيطاليا التي تربطها بتونس مصالح عدة وفي مقدمتها الهاجس الأمني".
ويرى علالة أن الجزائر يمكن أن تنزل بثقلها على الملف التونسي خاصة وهي التي تمتلك أوراقا رابحة كسبتها في الفترة الأخيرة عقب الكارثة التي حلت بأوروبا نتيجة العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وحولتها إلى مزود رئيسي لها على مستوى الغاز والنفط.
ويعتقد علالة أن الضوء الأخضر الذي أطلقته إيطاليا تجاه تونس، يشمل أيضا دولا أخرى على غرار فرنسا التي أكد سفيرها على ضرورة منع انهيار تونس ماليا، مشيرا إلى وجود إجماع من شركاء تونس على دعم مطلبها في الحصول على التمويلات شريطة المضي في تنفيذ الإصلاحات.