على أعتاب المنازل، يفترشن الأرض وتبدأن رحلة طويلة في صنع "الفخار" (الخزف)، يرافقهن توق لا ينضب إلى ابتكار مجسمات تروي تاريخ بلدة بربرية تناقلت نساؤها صناعة الطين منذ العهد الحجري الحديث.
رزق تتوارثه الأجيال
"في سَجنان، لا تشتري الأمهات عرائس لبناتهن بل تصنعنها لهن"... هكذا تخبر علجية "سبوتنيك"، عن حرفتها التي تعتز بها وتسعى بكل ما أوتي لها من جهد إلى المحافظة عليها من الاندثار، فهي موروث أجدادها وهويتها ومصدر فخر بلدتها.
معظم نساء هذه المنطقة الجبلية، التي تتبع محافظة بنزرت، لا يجدن القراءة ولم تطأ أقدامهن مدارج التعليم، وتمثل صناعة الفخار مورد الرزق الوحيد بالنسبة لغالبيتهن.
تقول علجية (64 عاما) إنها خبرت صناعة عرائس الطين وهي في 12 من عمرها، وتضيف: "كنت أستمتع بمراقبة أنامل والدتي وهي تشكّل الطين وتحوله إلى عرائس وأواني من الفخار، وكنت أهوى تقليدها".
كبرت علجية وتزوجت وأصبح لها أبناء وأحفاد، ولكنها لم تترك صناعة الفخار، وإلى اليوم، مازالت تمارس هذه الحرفة بنفس الشغف الذي كان يطالعها حينما كانت تداعب الطين بأناملها وهي طفلة.
ونجحت علجية في نقل موهبتها إلى بناتها وأحفادها، وهي تحرص على توريث هذه الحرفة إلى فتيات البلدة.
لم تخطر فكرة بيع القطع الخزفية على أذهان نساء البلدة، اللاتي كن يكتفين بصنع حاجياتهن من أواني الطبخ وتحف الزينة، وعلجية هي من فتحت الطريق لأن يكون "فخار سجنان" مورد رزق نساء المنطقة.
وتتابع علجية، قائلة: "قبل سنوات خلت، طلب مني والدي أن أجلب له الماء، وبينما كنت في طريق العودة، اعترضني فريق من الأجانب وشد انتباههم وعاء الماء الذي صنعته أمي من الفخار، وأصروا على اقتنائه بمقابل مادي".
ومنذ ذلك الحين، تناقلت فتيات البلدة مهمة بيع القطع الخزفية على أعتاب الطرقات، حتى انتشرت صناعتهن بين المدن التونسية، وتحول الفخار تدريجيا إلى مصدر رزق لنساء البلدة، وذاع صيته في أنحاء العالم قبل أن يتم إدراجه ضمن التراث اللامادي لمنظمة الـ"يونسكو"، سنة 2018.
الطين... لعبتي المفضلة
على مرمى أمتار من منزل علجية، تستعد الحرفية الشابة هاجر السعيداني، إلى بعث الحياة في مجموعة من عرائس الطين، التي وضعت فيها الكثير من روحها وفكرها وجهدها.
هاجر (24 عاما) هي أصغر حرفية في سجنان، وهي حفيدة أكبر حرفية في البلدة تعلمت على يدها تفاصيل هذه المهنة وخبرت منها فن تطويع الطبيعة، مستخدمة عناصرها الأربعة، التراب والماء والهواء والنار.
تقول هاجر لـ"سبوتنيك": "كان الطين لعبتي المفضلة وكنت أخيّره على الدمى البلاستيكية، التي لا روح فيها... هو اليوم مورد رزقي وأيضا مصدر شغفي".
وبفضل سعيها المستمر وعزيمتها الدؤوبة، تمكنت هاجر من تطوير مهاراتها في صناعة الفخار مستعينة بخبرة جدتها التي يلقبونها بعميدة الحرفيات ونجحت تدريجيا في اقتلاع مكانتها بين نساء البلدة.
لم تكن مهمة هاجر هيّنة، فعرائس الطين تخفي في داخلها قصصا يومية من الكد والجهد والقدرة على التحمل.
تقول محدثتنا إن "بعث الروح في هذه المجسمات يتطلب المرور بـ 12 مرحلة ولا يمكن التفويت في أي منها"، مضيفة:
تنطلق مهمتنا بجلب الطين من أعالي الجبال، ومن ثمة غربلته للتخلص من الحصى والشوائب، من ثم نضعه في الماء ونعجنه باستخدام الأرجل، قبل أن نخلطه بمادة "التافول" (بقايا الأواني القديمة) للحفاظ على تماسكه. بعد ذلك نرشه بالملح، ثم نشكل منه قطعا خزفية باستخدام أدوات نجلبها من الطبيعة ونصقلها بأنفسنا ونتركها لتبرد، ثم نضيف إليها الطين الأبيض وهو سر لمعانها، ثم نضعها في الفرن ونقوم لاحقا بترطيبها.
تنتهي رحلة صناعة الفخار بالتزيين، وهي المرحلة المفضلة بالنسبة لهاجر، التي تضع فيها بصمتها الخاصة وتتفنن في تزويق قطعها مستخدمة ألوانا تستخرجها أيضا من الطين أو من شجرة "الذرو".
تقول هاجر: "العروس من أصعب القطع التي نصنعها، فهي تحتاج إلى الكثير من الصبر والتركيز والإتقان... هذه العرائس عبارة عن جسد بلا روح ونحن من نبعث فيها الحياة لأننا نصنعها بشغف ومحبة".
وتخشى الحرفية الشابة على حرفتها من الزوال بسبب عدم إقبال الفتيات على تعلمها، ونقص الإمكانات وحاجتهن المستمرة إلى المشاركة في المعارض للترويج لمنتوجهن، وهو أمر مكلف.
حرفة تعانق العالمية
وتنشط معظم الحرفيات ضمن "مجمع سجنانية" الذي سُمّي نسبة لهن وربما لم يكن لـ"فخار سجنان" أن يعانق العالمية لولا هذا المجمع الذي أخذ على عاتقه مهمة تكوين الحرفيات الشابات والترويج لمنتوجهن داخل تونس، وخارجها.
تقول زينب فرحات، منسقة المجمع، في تصريح لـ"سبوتنيك"، إن "هذا المشروع الذي أقفل عامه العاشر كان بطلب من الحرفيات اللاتي أطلقن صيحة فزع بعد أن هاجرت الحرفيات منتوجهن بسبب بروز إمارة سلفية في سجنان، سنة 2012، وإقدام منتسبيها على كسر عرائسهن الفخارية لخلفيات عقائدية".
وأضافت فرحات: "كنا أمام تحدٍ كبير وهو محو الصورة السلبية التي رسخت في أذهان الناس عن سجنان، وتسببت في هجر منتوجها الخزفي، وقد نجحنا في ذلك وتولينا مهمة الترويج لفخار سجنان على المستوى الوطني والعالمي من خلال المشاركة المكثفة في المعارض والتظاهرات".
وأشارت زينب فرحات، إلى أن "براعة حرفيات سجنان أوصلتهن إلى تسجيل مهارتهن ضمن التراث اللامادي لمنظمة الـ"يونسكو"، سنة 2018، وهو ما ساهم في التعريف أكثر بمنتوجهن".
وتابعت:
يعود هذا الموروث الثقافي، إلى أكثر من 8 آلاف سنة، وقد عرفت به سجنان، التي سكنها البربر ونقلوا حرفتهم إلى التونسيات اللاتي نقلنها بدورهن إلى بناتهن.
وتقول فرحات إن "النساء هن من يبعثن الحياة في "فخار سجنان" بفضل حرصهن على توريثه للأجيال القادمة حفاظا على موروث المنطقة وعاداتها".
ولفتت إلى أن "عنصر الابتكار ساعد أيضا على إطالة عمر هذه الحرفة الضاربة في القدم"، مشيرة إلى أن "الحرفيات تحرصن على تجديد منتوجهن ومواكبة متغيرات السوق مع الحفاظ على المكونات الطبيعية التي يصنع منها الفخار".