يضم هذا السوق حوالي 50 محلا تتوزع بين محلات يتم فيها عرض الأواني والتحف النحاسية ومحلات يتم داخلها صناعة ونقش هذه الأواني ويعكف على صناعتها حرفيون بارعون يزاولون هذه المهنة لسنوات عدة، فيطوعون معدن النحاس داخل فرن ويحولونه إلى تحف وأوان تحمل شتى أنواع الزخارف والمنقوشات.
وأنت تتجول بالسوق تبلغ مسامعك أصوات الطرق والنقش على النحاس وتتجلى أمام ناظريك شتى أنواع الأواني والتحف المزخرفة المعروضة التي تعكس مهارة ودقة صانعيها.
مهنة تصارع الاندثار
حرفة صناعة النحاس تعتبر من أقدم الحرف في تونس، ويعود تاريخها إلى القرن الثالث عشر ميلادي، وإلى يومنا هذا مازلت هذه الحرفة تصارع من أجل البقاء ويحارب ما تبقى من حرفييها من أجل عدم اندثار صناعتهم.
نور الدين العياري البالغ من العمر 55 سنة يزاول مهنة صناعة النحاس منذ ما يزيد عن 40 عاما، وقد توارثها عن والده، يقول محدثنا أن هذه الحرفة ليست مجرد مهنة بالنسبة له وإنما هي قصة شغف وأضحت بمثابة مسار حياة بالنسبة له لا يمكنه التخلي عنه.
وعن نسبة الإقبال يقول العم نور الدين إنها تراجعت في السنوات الأخيرة نظرا لارتفاع أسعار النحاس ولكن تبقى هذه المهنة من المهن العريقة رغم العديد من الصعوبات، حيث لا يكاد يخلو بيت تونسي من الأواني النحاسية التي تعد من الموروث التقليدي الذي تحافظ عليه عديد العائلات التونسية، كذلك تحرص العروس التونسية على اقتناء بعض الأواني النحاسية وتضمينها في تجهيزات زفافها فهي عادة متوارثة لا يمكن الاستغناء عنها.
"سبوتنيك" التقت أيضا العم محمد الذي يبلغ من العمر 70 عاما وهو حرفي مختص في النقش على النحاس، يقول محدثنا أنه يزاول هذه الحرفة منذ 60 عاما، وقد تعلمها عن معلمه منذ كان عمره 10 سنوات.
وأضاف العم محمد بأنه أفنى عمره في هذا السوق وكبر فيه، وأشار إلى أن مهنة النقش على النحاس تتطلب حبا وصبرا كبيرين، حيث يمكن أن يستغرق النقش على القطعة الواحدة ساعات وساعات من العمل المتواصل من أجل تطويع القطعة وتزيينها بأبهى الزخارف والنقوش.
يحدثنا العم محمد عن عملية النقش التي تبدأ باختيار الأشكال والخطوط المناسبة لكل آنية، حيث يقوم برسم الأشكال في مرحلة أولى ببعض الأقلام الفولاذية التي تحدد الرسم، ثم يقوم في مرحلة ثانية بتتبع تلك الخطوط بالمطرقة والمسمار إلى أنّ يتم الحصول على الشكل المطلوب.
مهنة لا تستهوي الشباب
يقول العم محمد بلهجة لا تخفي تحسرا "لقد فشلت في إقناع أبنائي من أجل تعلم هذه الحرفة، الشباب اليوم لا تستهويه المهن اليدوية والصناعات التقليدية فهو يعتبرها شاقة ولا تدر له الربح الذي يطمح إليه".
وأضاف محدثنا أن صناعة وبيع النحاس حرفة تتطلّب الكثير من الصبر والشغف، وهو ما يفتقده شباب اليوم للتخصص في هذا الميدان.
النحاس كنز كل بيت تونسي
الخالة نزيهة، امرأة مسنة، ربة بيت، التقيناها في أحد المحلات، تقول إن النحاس كنز كل بيت تونسي ولا يمكن الاستغناء عنه، وعلى الرغم من ارتفاع أسعاره في السنوات الأخيرة إلا أن العائلات التونسية الزمنية (العائلات العريقة) لا تزال تعطيه قيمة وأغلب أواني مطابخها ومحتويات منازلها نحاسية.
تضيف الخالة نزيهة بأن الأواني النحاسية صحية على عكس الأواني العصرية التي لها عديد المضار على حد قولها، وقد حرصت على اقتناء جهاز زفاف بناتها من هذه المحلات حفاظا على عادة وتراث الأجداد.
على الرغم من الصعوبات التي تعانيها اليوم صناعة ونقش النحاس إلا أنها تبقى من أعرق الحرف في تونس، التي توارثتها أجيال عدة، فهي من الحرف التي تعكس المخزون التراثي التونسي على مر التاريخ، كما أنها من أكثر الحرف اليدوية التقليدية التي وفرت مواطن شغل في السابق.