في منتصف الدوار(القرية) نزلنا من السيارة في ساحة مكتظة بسيارات الشرطة والإسعاف وسيارات رجال الإنقاذ والبث التلفزيوني، إلى اليمين عشرات الخيام للناجين من أحداث الزلزال، غير متجانسة الألوان، لكنها مغلقة على من بداخلها. تفتح أبوابها الصغيرة إذا ما خرج طفل أو سيدة، وتسدل مرة أخرى، بعضها يحمل اسم وزارة الصحة المغربية، وبعضها يحمل شعار وزارة الداخلية، وأخرى لا تحمل أي إشارات.
ملامح الناس ترتدي سحنة الحزن، ثيابهم تتشح بغبار منازلهم، حركتهم بطيئة وخطواتهم متثاقلة، في عيونهم كل حديث تعجز الأقلام عن وصفه. صغار على ظهور أمهاتهم، وشيّاب يتكئون على عصيهم.عشرات يهرولون في اتجاهات مختلفة، فيما يستظل البعض بأشجار صامتة، شاهدة بحزن على ما وقع هنا.
جثث تحت الأنقاض
إلى اليسار كان مشهد الجحيم يتجلى واضحا. يؤكد بشكل قاطع أرقام الضحايا. عشرات المنازل انهارت وانمحت عن بكرة أبيها، لم تعد ملامح الشوارع والأماكن واضحة بعد ما حدث، فكل شيء فوق هذه الأرض التحم بدماء من كانوا يعيشون هنا قبل أن ينتهوا في لحظة واحدة، كأنهم لم يوجدوا يوما.
في جانب من المنازل المنهارة يواصل عمال الإنقاذ البحث عن جثث الضحايا تحت الأنقاض، يبدو الإرهاق عليهم جليا، هم يواصلون العمل لساعات طويلة، قبل أن يستريحوا ليحل محلهم فريق آخر من الزملاء في المهمة، يخجل بعضهم من الموتى ويكابر التعب. نقترب منهم الخطوة تلو الأخرى وتسبق خطواتنا رائحة الموت التي تتجول في المكان، عندما لم تعد رائحة الجثث تحتمل، ارتدينا الكمامات الطبية، واقتربنا أكثر لالتقاط الصور.
عشرات العمال من القوات المغربية وثلاثة من الإسبان، وإلى جوارهم بعض أهالي الدوار، يقومون بالبحث عن الأماكن المناسبة للحفر وإخراج الموتى.
منازل بسيطة من حجارة وطين، وسقوف من أخشاب غطيت بحشائش الأرض وطينها وجريد نخلها، كانت قبلا تأوي عائلات وتدثر شتاتهم، شيدت من تراب الأرض وعادت إلى سيرتها الأولى، مجرد تراب وحجارة متناثرة فوق الأرض.
عمليات الطائرات المروحية
في مشهد آخر من الصورة المأساوية، تحط طائرة مروحية مغربية، بعد أن أفسح لها رجال الشرطة مساحة كبيرة وأحاط بها رجال الصحافة والإعلام لالتقاط الصور الخاصة، بعد دقائق من هبوطها، تصل إلى الساحة ثلاث سيارات إسعاف، تحمل كل واحدة منها مصابا.. رجلان وسيدة كانوا في وعيهم، لكن الكسور وازرقاق الجلد بدا واضحا على أجسادهم.
أدخلوهم للطائرة، ثم أخرجوهم وأعادوا إدخالهم مرة ثانية، لم نفهم حينها سبب الإجراء، لكننا امتثلنا لطلب الابتعاد عن الطائرة التي كانت تثير الغبار من حولها وتتطلب إخلاءً تاما لمجالها قبل الاقلاع.
بعد نحو ساعة من التقاط الصور في مناطق العمل، تجولنا بين المنازل المنهارة وفوق ركامها الذي يحمل من أثر سكانه دماءهم وملابسهم وأوانيهم وفراش منازلهم، بل يحمل حياتهم بالمختصر.
في انتظار الموتى
بين حطام أحد المنازل كانت تجلس هند معطالله، سيدة ثلاثينية من منطقة "ثلاث نيعقوب" إقليم الحوز-مراكش، يكاد الحزن على وجهها ينطق بدلا منها، ترتدي عباءة بيضاء مشجرة بورود كحلية اللون، وغطاء رأس تتداخل فيه الألوان، إلى جوارها شقيقتها، كانتا ساكنتين كأنهما تنتظران خروج عزيز لهما من تحت الأنقاض.
تحدثنا إلى السيدة هند التي أخبرتنا بعد حوار قصير، أنها تجلس في المكان الذي فارق فيه ولدها ووالدتها الحياة، ولم تستطع إنقاذهما، نفقد الكلام أمام مصابها ونكتفي بالصمت والإنصات.
تستعيد المشهد الأخير قبل وقوع الزلزال بصوت مرتجف: "ليتني مت قبل أن أرى كل هذا الجحيم"... نطقت بهذه العبارة وصمتت لأكثر من دقيقة شاردة من هول الصدمة، كان الشرود وسيلتها لاستعادة قوتها ومواصلة سرد ماحدث.
واصلت كلامها: "كنا انتهينا للتو من تناول العشاء، كنا جميعا نضحك ويلهو الأطفال بجوارنا، فجأة كل شيء بدأ يتحرك من مكانه، أدركنا بعد لحظات أنه الزلزال، وسارعنا بالهروب إلى الشارع".
لحظات الموت
لم يتمكن أحد من بلوغ الباب والنجاة بنفسه، انهار المنزل في لحظات فوق رؤوس الجميع، إلا أن السيدة كتبت لها النجاة دون عائلتها.
تابعت في حديثها لـ "سبوتنيك": "كلها مجرد ثوان وانهار المنزل، كنت قريبة من الباب فسقط فوقي، فيما سقط الحائط بالكامل على والدتي، اختفى طفلي البالغ من العمر 3 أعوام تحت سقف المنزل، ودفن النصف الأسفل من شقيقتي تحت الركام".
بعد نحو نصف ساعة استفاقت وكان جسدها مغطى بباب المنزل وركام خفيف تمكنت من إزاحته، لكن الظلام الذي حل بالمنطقة إثر انقطاع التيار الكهربائي، زاد الوضع سوءا وتعقيدا. لم تعرف السيدة كيف تتصرف وإلى أين تتجه، يعم صراخ النساء المنطقة، الأصوات فقط هي ما يميز الأماكن التي لا تزال تحمل إشارات الحياة، صوت شقيقتها على بعد أمتار منها تناديها" أنقذيني أنقذيني يا هند أستحلفك بالله".
وصلت السيدة هند إلى شقيقتها، وقلبها ممزق بين أمها وولدها، هما تحت أنقاض المنزل لكنها لا تسمع لهما أي صوت ولا ترى أي أثر للحياة من حولها، سوى أثر شقيقتها التي كان نصفها مدفونا تحت الركام ونصفها بارزا من فوقه.
لأكثر من نصف ساعة حاولت السيدة هند باستماتة إخراج شقيقتها من تحت الركام، كان إخراجها بمثابة الأمل العظيم الذي تستند عليه طمعا في أن تساعدها في رفع الأنقاض من فوق أجساد والدتهما وولدها، كان الأمل يحركها رغم التعب والإصابات، لتنقذ بقية العائلة رغم خيط النور الضعيف في احتمال نجاة البقية، لكن شقيقتها لم تستطع التحرك لما تسبب به الحطام من كسور في ساقيها، وظلت على حالها حتى نقلها الأهالي إلى خارج المنزل المنهار.
عمليات إنقاذ مدنية
استمرت عمليات الإنقاذ من قبل الأهالي وفق السيدة هند لساعات طويلة مضنية ومتعبة، حجم الكارثة شتت الجهود وهد السواعد، كل شخص منهم كان مشغولا بالبحث عن المفقودين من أهله ونقل المصابين إلى ساحة خالية آمنة، لم يسلم أحد من الموت، آخذا منه أو مأخوذا، فمن لم يمت، مات عزيز عليه.
أمام المنزل وتحت ظل قطعة من الصاج، تتمدد قطة سوداء على الأرض في وضع النوم لكنها لا تنام، بدت باكية حزينة، أخبرتنا السيدة أنها قطة طفلها الصغير الذي رحل، وأنها لم تفارق المنزل منذ أن وقع الزلزال، اقتربنا منها فلم تعبأ بأقدامنا ولا بحالة الضجيج المنتشرة في المكان، لبثت ساكنة أمام مرور الآلات الثقيلة ورجال الإنقاذ وكل ما يخيف القطط، لم تتحرك من مكانها ولم تغير وضعيتها، كأم فقدت صغارها تحت الأنقاض، تجلس في انتظار خروجهم، هنا تحزن الحيوانات مع البشر أيضا.
رائحة الأطفال بين ركام المنازل
أكثر الضحايا هنا من "الدراري الصغار" أي "الأطفال"، هكذا أخبرتنا هند بأن طفلها لم يكن الوحيد، بل فارق معظم أصدقائه في الدوار الحياة مثله، كأنها تبحث عن أسباب لتخفيف وجع ما حل بها.
بين ركام المنازل بقايا أدوات منزلية وأجهزة وفراش، وصور كانت معلقة ذات يوم على جدران المنازل، لكن رائحة الأطفال كانت الأبرز، "رائحة الموت الظالم دائما أبرز".
كتبهم وأحذيتهم، ملابسهم وبعض كلماتهم على الورق، هذا كل ما تبقى من ذكرى الأطفال الذين فارقوا الحياة وتركوا بعض تفاصيلهم شاهدة عليهم، حين باغتهم الزلزال حاملا حتفهم دون إنذار في إقليم الحوز جهة مراكش في المغرب.
يصادفنا كتاب لأحدهم ظل على حاله مفتوحا بين الركام، كانت الصفحة المفتوحة كرسالة للمارين من هنا تحمل عبارة "جسم شفاف، جسم شبه شفاف، جسم معتم"، كأنها تلخص كل ما أصبحت عليه المنطقة بعد الموت الكثير الذي رأت.
جغرافيا المدينة
تنتمي مدينة "ثلاث نيعقوب"، إلى إقليم الحوز هو أحد الأقاليم المغربية الواقعة جنوب غربي المغرب، وينتمي إلى جهة (محافظة) مراكش آسفي، ويبعد عن مدينة مراكش نحو 40 كيلومترا، هي أول حدوده الإدارية مع مراكش.
يقول عبد اللطيف اجعيدي، فاعل جمعوي بإقليم الحوز، إن عدد سكان المدينة نحو 7900 نسمة، فيما بلغ عدد ضحايا الإقليم بشكل كامل نحو 1693 حالة وفاة.
يوضح الفاعل الجمعوي في حديثه لـ "سبوتنيك" بتاريخ 27 سبتمبر/أيلول 2023، أن عمليات فك العزلة وإعادة تهيئة الطرق الرابطة بين الجماعات المتضررة التي تبلغ 26، جماعة من 40 جماعة مستمرة حتى اليوم (والجماعة هي تجمع سكاني يتراوح سكانه ما بين 7500 و23000 نسمة).
وأشار إلى أن الشبكة الكهربائية تم إعادة إصلاحها بنسبة متقدمة، كما استؤنفت الدراسة من جديد، سواء من حيث نقل نحو 6000 من تلاميذ الإقليم إلى مدينة مراكش، حيث وفرت لهم السلطات الإقليمية إقامات سكنية للطلبة، وتمت عملية الإيواء، ومتابعة الدراسة بطريقة مجانية.
محمد حميدة