وقبل أيام تقدم مجموعة من النواب من كتل برلمانية مختلفة (الخط الوطني السيادي، صوت الجمهورية، الأحرار، الأمانة والعمل، الوطنية المستقلة) ومن غير المنتمين إلى كتل بمبادرة تشريعية ترمي إلى تنقيح القانون عدد 35 لسنة 2016، والذي اصطلح على تسميته بقانون استقلالية البنك المركزي التونسي.
ويُسقط مقترح القانون الذي تقدم به 27 نائبا عن البنك المركزي صلاحيته الحصرية في تحديد سعر الفائدة وسياسة الصرف والتصرف في الاحتياطيات من العملة والذهب، وربطها بوجود توافق مع الحكومة.
كما يفرض مقترح القانون الجديد على البنك المركزي عدم توقيع اتفاقيات مع سلطات رقابية أجنبية إلا بعد الحصول على موافقة رئيس الدولة ولجنة المالية بالبرلمان.
وتُلزم هذه المبادرة التشريعية البنك المركزي بشراء سندات حكومية من البنوك وإقراض الخزانة بشكل مباشر بقيمة تناهز الـ 3% من الناتج المحلي الإجمالي، على ألّا تتجاوز آجال السداد الخمس سنوات.
ويأتي هذا المقترح في ظل أزمة مالية تعيشها البلاد منذ فترة، فاقمتها صعوبة الحصول على التمويلات الخارجية بعد رفض تونس مواصلة الاقتراض من صندوق النقد الدولي. وهو ما أجبرها على التعويل على الاقتراض الداخلي، في خطوة يرى خبراء أنها تقلص من إمكانيات التنمية والاستثمار.
وجددت هذه المبادرة التشريعية النقاشات بشأن استقلالية البنك المركزي التونسي الذي كان محط انتقادات سابقة من رئيس الدولة قيس سعيد الذي قال إنه لن يسمح بأن يتحول البنك إلى دولة داخل الدولة.
وفي فبراير/شباط 2024، أقال الرئيس التونسي محافظ البنك المركزي مروان العباسي، الذي خلفه لاحقا فتحي النوري بعد أشهر من الجدل حول استقلاليته والخلاف بشأن سياسته في تحديد أسعار الفائدة والتمويل المباشر للخزينة العمومية.
ويبدو أن تصريح العباسي الذي أفاض حينها كأس الصبر لدى الرئيس التونسي هو تحذيره من تكرر السيناريو الفنزويلي في تونس في صورة اعتماد مقترح الرئيس المتمثل في شراء سندات الخزانة بما سيؤدي إلى ارتفاع التضخم وانزلاق قيمة الدينار التونسي.
ومطلع العام الجاري، طلبت الحكومة التونسية من البنك المركزي تمويلا مباشرا لفائدة الخزينة العامة للدولة لسد العجز في الميزانية، بما قيمته 7 مليارات دينار (ما يناهز 2.25 مليار دولار).
تخفيف العبء على الموازنة
وفي تعليق لـ "سبوتنيك"، قال النائب عن كتلة صوت الجمهورية نزار الصديق(نائب من الذين تقدموا بمشروع القانون) إن الهدف من هذا المقترح التشريعي هو التخفيف من تكلفة تعبئة الميزانية خاصة بعد إيقاف مسار الاقتراض من صندوق النقد الدولي.
وأضاف: "هذا القرار دفع تونس إلى التعويل على البنوك التونسية وجهات أخرى أجنبية ولكن هذا الخيار يكلّف الدولة نسبة فائدة مرتفعة تتجاوز 4%، في حين أن الاقتراض المباشر من البنك المركزي لا تتجاوز نسبة الفائدة فيه 1%".
ولفت الى أن الفارق يقدّر بملايين الدنانير التي يمكن استغلالها في مشاريع بنى تحتية ومشاريع استثمارية كبرى.
وتابع: "لا يمكن للحكومة والبنك المركزي أن يعملا بشكل منفرد لذلك فرضنا مسألة التوافق مع الحكومة".
واعتبر الصديق أن الوضع الاقتصادي والمالي الصعب الذي تمرّ به البلاد يستوجب من البنك المركزي أن يكون مساهما فعليا في دفع التنمية والاستثمار والحد من البطالة.
وحول التحويرات الأساسية التي تتضمنها هذه المبادرة التشريعية، قال الصديق إن مقترح القانون يضم إجراءً يهم المواطنين بصفة مباشرة، ويتمثل في إضافة خط تمويل بقيمة 500 مليون دينار (ما يعادل 161 مليون دولار) لفائدة مزودي الدولة التونسيين الذين لم يتسلموا مستحقاتهم من الدولة.
وتابع: "بمقتضى مشروع القانون المقترح سيتم أيضا فتح خط تمويل بقيمة 20 مليون دينار لدعم البحث العلمي كوسيلة لتحسين النمو وتفعيل السيادة الاقتصادية".
وأشار الصديق إلى أن القانون الحالي للبنك المركزي يمنعه من شراء سندات حكومية بشكل مباشر على عكس المقترح الجديد الذي يسمح بهذا الإجراء.
وشدد النائب على أن هذا القانون لم يكن نتاجا لمبادرة فردية وإنما جاء بعد التشاور مع مجموعة من الخبراء حتى يكون قانونا شاملا.
وحول ربط تحديد نسبة الفائدة بموافقة الحكومة، أوضح الصديق: "منذ تفعيل القانون الحالي سنة 2016 انحصرت مهمة البنك المركزي في الترفيع في هذه النسبة أو التخفيض فيها، وهو ما ينعكس بصفة مباشرة على المواطن خاصة على مستوى شراء العقارات والسيارات"، مشددا على أن التنسيق المحكم بين الحكومة والبنك المركزي والبرلمان يفضي إلى قرارات أكثر نجاعة وإلى حسن التصرف.
جدل حول استقلالية البنك المركزي
على الطرف المقابل، اعتبر الخبير الاقتصادي بسام النيفر، في تصريح لـ "سبوتنيك"، أن تعديل قانون البنك المركزي ليس أولوية، مشددا على أن الظرف الاقتصادي الصعب والدقيق الذي تمر به تونس حاليا يستوجب الحفاظ على مجموعة من التوازنات، ومن بينها استقلالية البنك المركزي.
وأوضح: "استقلالية البنك المركزي تتمثل أساسا في اختيار السياسة النقدية والوسيلة التي تمكنها من مقاومة التضخم و اليوم نستشعر أن هذه الاستقلالية باتت مصدر قلق بالنسبة للبعض، خاصة وأن هذه هي المحاولة الثانية لنزعها".
ويرى النيفر، أن فرض مسألة التوافق مع الحكومة في تحديد نسبة الفائدة، سيفرز تداخلا بين الجوانب السياسية والجوانب التقنية، مشيرا إلى أن السياسة قد تكون لها اعتبارات ليست لها أية علاقة بالجوانب التقنية، وهي نقطة اعتبرها النيفر سلبية وتقوض استقلالية القرار صلب البنك المركزي.
وتعليقا على هذه المسألة، قال النائب نزار الصديق إن فرض استقلالية البنك المركزي ضمن القانون عدد 35 لسنة 2016 لم يكن نتاجا لقرار داخلي، وإنما كان نتيجة لضغوطات صندوق النقد الدولي مقابل الحصول على القروض.
وأضاف: "حاليا قطعت تونس الاقتراض من صندوق النقد الدولي وهي مستمرة بسداد ديونها السابقة تجاهه وبالتالي لم تعد هناك حاجة للارتهان إلى قرارات الصندوق".
وشدد على أن التنصيص على التشاركية سيفضي إلى مزيد من النجاعة.
وأكد الصديق أن مقترح القانون الجديد، وعلى عكس ما يتم الترويج له، لا يُجرّد البنك المركزي التونسي من صلاحياته الرئيسية في تحديد السياسة العامة النقدية للبلاد التونسية.
استتباعات مالية سلبية
وفي قراءة اقتصادية لهذه المبادرة، قال بسام النيفر إن الفصل العاشر الذي ينص على أن تحصل البنوك على السيولة من البنك المركزي، يحث المؤسسات البنكية والمالية التي تستثمر في سندات الدولة على الاستثمار في رقاع الخزينة التي تصدرها الدولة على حساب الرقاع التي تصدرها المؤسسات.
ولفت إلى أن النقطة المحورية السلبية في هذه المبادرة تتمثل في الفصل الخامس والعشرين الذي يسمح بإحداث خط تمويل من البنك المركزي في حدود 5% من إيرادات العام المنقضي لفائدة الخزينة العامة للدولة وتطبق عليها نسبة فائدة سنوية بـ 1%.
وأضاف: "هذا الإجراء سيكون له تأثير سلبي مباشر على قيمة الدينار، لأن منح تسهيلات مالية مباشرة بصفة مستمرة للدولة سيفتح الباب أمام التضخم، وهو ما يناقض الدور الأساسي للبنك المركزي وهو المحافظة على الأسعار".
وبيّن النيفر، أن هذا الفصل يسمح أيضا للبنك المركزي بخلاص الديون الخارجية للدولة، مع الحفاظ على رصيد 90 يوما من العملة الصعبة، وهو يضعف أداء الاقتصاد الوطني وقدرة المؤسسات التونسية العمومية والخاصة التي لها معاملات مع الخارج.
وقال النيفر إن 90 يوما من التوريد لا تسمح للدولة التونسية مثلا بمقاومة الأزمات المفاجأة التي تطرأ على مستوى دولي أو إقليمي والتي قد تؤدي الى ارتفاع كبير في أسعار المواد الأولية.