"بيلاجيا السورية".. سيدة تدمرية هجرها تنظيم "داعش" فأضحت مديرة لأعرق الحمامات التراثية في البلاد

من خبازة تعمل على فرن الصاج إلى مديرة لثالث أهم معلم أثري في محافظة حماة وسط سوريا.. على هذا الطريق سارت السيدة التدمرية ناريمان القاسم، معلنة فخرها بمرورها الآمن بين زوايا حياتها المليئة بالأفخاخ.
Sputnik
في مايو/ أيار 2015، هجّرت السيدة ناريمان القاسم، من مدينتها تدمر وسط سوريا، وغادرت منزلها على عجل مع تتابع الأخبار عن الدموية والتفجيرات الانتحارية لمسلحي تنظيم "داعش" الإرهابي (محظور في روسيا ودول عدة) أثناء محاولته اقتحام المدينة من بواباتها الشرقية.
مسكت القاسم بيد أطفالها وبدأت مع زوجها المصاب رحلة النزوح الغريزي مع الآلاف من سكان مدينتها، إذ تركوا منازلهم وكل ما يملكون وخرجوا بثيابهم التي تكسوا أجسادهم، ليخوضوا سباقا جنونيا مع الموت للوصول إلى مناطق آمنة، كان الحفاظ على حياة أطفالها الصغار يطفو على كل ما دونه.
"بيلاجيا السورية".. سيدة تدمرية هجرت بسبب "داعش" فأضحت مديرة لأعرق الحمامات التراثية السورية
"بيلاجيا" السورية
في رحلة طافحة بالخوف، مفعمة بلحظات التمانع بين الحياة والموت، قطعت القاسم شطر البادية السورية، نحو بر الأمان في مدينة حماة، وسط سوريا.

ثمة قصة كفاح أخرى كانت تنتظر السيدة التدمرية، قصة نضالية تستلمح الصورة المشرقة للأم "بيلاجيا"، في خالدة مكسيم غوركي، نظرا لما يجمعهما من تطابق الحس الغريزي بالنضال لأجل توريث الأولاد عالمًا أفضل مما عاشته.

وقالت ناريمان القاسم لـ"سبوتنيك": "عند وصولنا إلى حماة، لم نكن نملك أي شيء، لا مال ولا ملابس ولا حتى منزلا نسكن إليه، بدأت على الفور رحلة البحث عن عمل، كان هاجسي الوحيد هو ألا يتشرد أطفالي في الشوارع، أريدهم أن يكملوا تعليمهم دون انقطاع".
"بيلاجيا السورية".. سيدة تدمرية هجرت بسبب "داعش" فأضحت مديرة لأعرق الحمامات التراثية السورية
"البحث عن نقطة صفر"
بدأت السيدة التدمرية رحلة أخرى تنضح بالكفاح بحثا عن "نقطة صفر" لعلها تستأنف الحياة الجديدة من حوافها، كان الأمر كان أشبه بسلسلة من الدراما المستمرة والشديدة التعقيد.

لم يكن العام 2015، مثاليا للحصول على فرص عمل في سوريا، فخلال أشهره الأولى، كانت التنظيمات الإرهابية، على اختلاف عقائدها الفكرية، تستشري بشكل متزامن في عموم الجغرافية الوطنية، ما أدى لاكتظاظ هائل بالهاربين من المناطق الساخنة، داخل المناطق الآمنة، التي كانت تعاني أساسا تدهورا في مجمل الأنشطة الاقتصادية، جراء ضغط القصف المستمر وتقطع طرق المواصلات.

وأضافت السيدة التدمرية: "قضيت أشهرا طويلة وأنا أنتقل من موقع إلى آخر بحثا عن فرصة عمل، إصابة زوجي لا تسمح له بالتحرك، ولم يكن أمامي من خيار سوى طرق كل الأبواب المحتملة، للحصول على عمل يساعدني على إطعام أطفالي الثلاثة، وإكمال تعليمهم".
في عقر دار الرجال
لم تمض أمور السيدة التدمرية بيسر، فإلى جانب الضغط الذي يعانيه قطاع التشغيل، وقف "النوع الاجتماعي" سدا منيعا أمامها في الحصول على عمل.

وتابعت القاسم: "حاولت كثيرا، لم أترك بابا إلا وطرقته، كان الجميع يرفض طلبي في فرصة عمل، إلى أن دخلت إلى حمام "الدرويشية" في حالة من اليأس، لم أكن أدري تماما كيف يمكن لامرأة أن تجد عملا في حمام شعبي للرجال، فكانت المفاجأة أن تم الترحيب بي والموافقة على أن أعمل بمهنتي التي أتقنها، وهي صنع الخبز المصنوع على موقد الصاج".

في واقع الأمر، لم يكن موقد خبز الصاج مهنة القاسم بالمعنى الحرفي للكلمة، فهو يعد أحد المهام الرئيسية لسيدات المنزل في بيئة البادية السورية، حيث تستخدمه النساء لصنع الخبز للعائلة، أما المدن الكبيرة فتشهد رواجا لمثل هذه الأعمال باعتبارها تراثا محببا، وهذا لربما هو ما جذب رب العمل كحلقة جديدة من الترويج التراثي لحمامه الأثري.
وقالت: "تعلمت خبز الصاج من والدتي منذ الصغر، حيث يتم شيّ العجين، بعد خبزه بشكل مستدير كبير ورقيق ويمكن أن يضاف إليه الجبن أو الزعتر أو دبس الفليفلة".
"بيلاجيا السورية".. سيدة تدمرية هجرت بسبب "داعش" فأضحت مديرة لأعرق الحمامات التراثية السورية

على الفور، بدأت القاسم عملها في الحمام، ورغم أن عمل امرأة في حمام شعبي للرجال والنساء (بشكل منفصل صباحا ومساء)، كان ليشكل معضلة حقيقية، إلا أن تعاون مالك الحمام أسهم كثيرا في تهدئة هواجسها، ومضت الأمور على ما يرام، كما تؤكد السيدة التدمرية، موضحة أنه "خلال زمن قصير من تواجدي في الحمام، لاحظت الخوف الذي يسيطر على السيدات في حماة، لدى نيتهن التردد إلى الحمام التراثي وذلك بسبب الظروف الصعبة التي كانت تسود آنذاك، لذلك فقد سعيت إلى تطوير العمل من خلال إدخال أفكار جديدة على العمل لكسر هذا الخوف وتشجيع النساء على زيارة الحمام".

قامت القاسم بتنشيط الغايات الاجتماعية للحمام، وشجعت إقامة الأعراس والمناسبات الاجتماعية المختلفة داخله، إلى جانب حفلات الحناء للعروس، وغير ذلك من المناسبات العائلية التي تديرها النساء.
"بيلاجيا السورية".. سيدة تدمرية هجرت بسبب "داعش" فأضحت مديرة لأعرق الحمامات التراثية السورية
ووفقا لها، فإنه "بعد جهد كبير قدمته خلال مرحلة عملي الأولى، تبدلت حال توافد الزبائن وأصبح وجهة اجتماعية للكثير من العائلات الحموية، وتمكنت من أن أصبح مديرة الحمام والمسؤولة على كل شيء فيه".
550 عام من التاريخ

يعد حمام "الدرويشية"، ثالث المواقع الأثرية من حيث الأهمية في مدينة حماة، لا يضاهيه جمالا وإبداعا على لائحة تراث المدينة سوى نواعيرها الشهيرة وقصر العظم الأثريين.

وعن تاريخ الحمام، تشرح التدمرية المتحدرة من مدينة تاريخية، فيما تعمل اليوم مديرة لموقع تاريخي أيضا: "يعود تاريخ الحمّام إلى النصف الأول من القرن السادس عشر الميلادي، بناه القاضي محمد الأعوج، وكان يسمى آنذاك بالحمام الجديد، فقام الأمير حسن الأعوج، بإهدائه إلى المتسلم التركي الذي خلفه درويش باشا، فعرف بحمّام الدرويشية نسبة إليه".
"بيلاجيا السورية".. سيدة تدمرية هجرت بسبب "داعش" فأضحت مديرة لأعرق الحمامات التراثية السورية
وبقي الحمام يعمل طيلة 500 عام ليغلق أبوابه مطلع تسعينيات القرن الماضي، إلى أن اشتراه الحاج عبد المعين الشوّاف، عام 2000، من عائلة قاسم آغا، ليستمر إغلاقه حتى العام 2017، حيث وضعت وزارة السياحة السورية ومحافظة ومديرية آثارها خطةً لترميمه.
ووفق القاسم، يتألف الحمّام من القسم "البراني"، الذي يتوزع على 4 أواوين (إيوان)، تحيطه مصاطب حجرية لجلوس الزبائن، ترتفع فوقه قبة، ويتفرع إلى "الوسطاني"، الذي يشبه "البراني"، ولكن أصغر حجماً، كما يحوي 4 مقصورات واسعة ذات سقوف مرتفعة ينفذ النور من خلالها عبر قطع زجاجية، فيما تؤدي كل مقصورة إلى دهليز يفضي إلى القسم "الجواني"، وهذا الأخير قسم حارٌ وواسع تقع حوله مقاصير وأواوين متعددة تحوي تقريباً على 13 جرناً حجريا، وفي باحته أرض محدّبةٌ يتصاعد منها بخار الماء، وتسمى "بلاط النار".
مناقشة