سبوتنيك — عامر راشد
النتائج الأولية للانتخابات البرلمانية في اليونان التي أجريت، يوم أمس الأحد، منحت تقدماً لافتاً لحزب "سيريزا" اليساري على حزب "الديمقراطية الجديدة" يمين الوسط الحاكم، على خلفية الأزمة الاقتصادية وفشل النصائح والتوجهات الأوروبية للخروج منها، بإجراءات تقشف صارمة أنهكت الشعب اليوناني.
حزب "سيريزا"، بقيادة زعيمه الشاب أليكسيس تسيبراس، عنون حملته الانتخابية برفع الحد الأدنى للأجور وإلغاء بعض الضرائب المفروضة على الطبقات الأشد فقراً، والطلب من الدائنين الأوروبيين إعادة التفاوض حول ديون اليونان وخفضها، في انقضاض على برنامج حزب "الديمقراطية الجديدة"، بقيادة رئيس الوزراء المحافظ أنتونيس ساماراس، الذي عمل على تنفيذ الإملاءات الاقتصادية والمالية الأوروبية، بزعامة ألمانيا، والدولية التي يفرضها "صندوق النقد الدولي".
توقعات فوز حزب "سيريزا" عشية الاقتراع وجدت أصداء لها في الفضاء الأوروبي، بإبداء المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل مرونة جزئية في التعامل مع النتائج التي ستفرزها الانتخابات البرلمانية اليونانية، من خلال إبداء الاستعداد للتفاوض مع الحزب الفائز فيها، لكنها وضعت ذلك في سياق توقع ما وصفته بـ"استمرار اليونانيين بتقديم تضحيات في مقابل الدعم الأوروبي". وكانت ميركل صرحت، في بداية الشهر الجاري، بأنها لا تمانع خروج اليونان من منطقة اليورو، في حال نجح اليسار في الانتخابات البرلمانية وقام بمراجعة خطط التقشف، وامتنع عن سداد الديون.
ردود فعل أنصار حزب "سيريزا" اليساري، والشارع اليوناني عموماً، على تصريحات ميركل رأت فيها إصراراً على إكراه اليونانيين على اتباع سياسة تقشف صارمة، جربت خلال السنوات الخمس الماضية، ولم تفلح في انتشال البلاد من أزمتها الاقتصادية، بل ضاعفتها وولدت قناعة لدى غالبية الشعب برفض أن يكون التقشف ثمناً للبقاء في منطقة اليورو.
الاتحاد الأوروبي كان قد قرَّر تقديم حزمة من المساعدات المالية لليونان، إلى جانب مساعدات يقدمها "صندوق النقد الدولي"، بدءاً من عام 2010، ضمن خطة إنقاذ للحيلولة دون إفلاس البلاد تحت وطأة عجز الموازنة العامة وارتفاع الدين الحكومي، الذي بلغ 175% من الناتج الوطني بتقديرات الحد الأدنى. وتلقت اليونان على مدار السنوات الخمس الماضية ست دفعات من القرض، وتم جدولة أكثر من 50% من سندات الدين العام، ونفذت الحكومة اليونانية أربع دفعات من خطة التقشف، أضرت كثيراً بمستويات معيشة الطبقات الوسطى والفقيرة، ولم تستنهض الأوضاع الاقتصادية المنهارة.
وجاءت تأثيرات حزمة المساعدات المالية الأوروبية والدولية بنتائج عكسية، ليس فقط في مضمار الإضرار بالطبقات المتوسطة والفقيرة، وارتفاع منسوب التوترات الاجتماعية في اليونان، بل أيضاً بثبوت المساوئ الكبيرة لتنفيذ شروط الاتحاد الأوروبي و"صندوق النقد الدولي، واتضاح أن الدائنين تعاملوا بانتهازية مع الأزمة المالية والاقتصادية اليونانية، بفرض فائدة على القروض تبلغ ما يقارب 6%، بينما كان متاحاً للحكومة اليونانية عام 2010 الحصول على قروض من جهات أخرى، مثل روسيا والصين على سبيل المثال لا الحصر، بفائدة لا تتعدى 1%، ودون اشتراط إجراءات تقشف قاسية، كان من تبعاتها انهيار العديد من الشركات والمشاريع الاستثمارية المتوسطة والصغيرة، وتفاقم الخلل الهيكلي في بنية الاقتصاد اليوناني، وتراجع قياسي في معدلات الاستثمار، وهجرة رؤوس الأموال والكفاءات إلى الخارج، وبالتالي نقص السيولة النقدية وعجز في عمليات التمويل.
كل ذلك حصر دور حكومة يمين الوسط الحاكم في اليونان بتنفيذ شروط الاتحاد الأوروبي و"صندوق النقد الدولي" المجحفة، وإدارة الأزمة في دائرة مفرغة خدمة لمصالح الدائنين، لمنع الإعلان عن انهيار اليونان مالياً واقتصادياً، الذي سيكلف معسكر الدائنين أضعاف القروض التي قدموها، ومن شأنه أن يطلق صفارة إنذار بفشل النموذج الرأسمالي الغربي، القائم على اقتصاد السوق المتوحش، وعدم السيطرة على النفقات العامة، والتشجيع على المزيد من الإقراض وعيش المواطنين فوق طاقتهم ودخلهم المادي، بما يملي على الدول الأضعف اقتصاداً الخضوع لشروط الدول الأقوى في عجلة الرأسمالية، والقادرة على إخفاء وإدارة أزماتها حتى الآن.
اليونانيون أدركوا سقم وصفات الاتحاد الأوروبي و"صندوق النقد الدولي"، وأن وجودهم في منطقة اليورو يجب أن لا يكون ثمنه الإبقاء على سياسات التقشف، وهم قرروا موقفهم من خلال صناديق الاقتراع، وانتصار اليسار في الانتخابات البرلمانية التي أجريت، أمس، سيكون حدثاً يلقي بظلاله على منظومة الوحدة النقدية الأوروبية، بالتمرد على سياسات التقشف المفروضة على اليونان.