هذه كانت استنتاجات المؤرخين الأمريكيين والأتراك الذين قاموا بتحليل المعلومات التي نعرفها من الحياة اليومية لأول إمبراطورية عظمى في بداية العصر الحديدي، علماً أن نتائج هذه الدراسات تم نشرها في مجلة "Climatic Change ".
نشأت الإمبراطورية الآشورية في وقت واحد تقريباً مع نشوء دول أخرى من بلاد ما بين النهرين، لكنها وحتى بداية القرن العاشر قبل الميلاد بقيت في ظل دولة بابل وغيرها من القوى العظمى الأخرى في تلك الحقبة. في هذه الأثناء وبفضل عدم الاستقرار العام في المنطقة والغارات البربرية والهجرة الجماعية للشعوب، ضعفت جميع دول ما بين النهرين والبحر المتوسط بشكل ملحوظ. لكن الحكام الآشوريين الذين حافظوا على سلامة أراضيهم استغلوا نافذة الضعف هذه لإنشاء أكبر قوة عسكرية في العصر الحديدي، واستخدموها لغزو بابل ومصر وإسرائيل وعيلام، وتأسيس أول إمبراطورية في تاريخ البشرية.
وبالتالي، فإن مثل هذه الأحداث من حياة أهم قوة عسكرية في ذلك الوقت، أجبرت العلماء على لفت الانتباه إلى حقيقة كيف كانت الزراعة مبنية في الإمبراطورية، وكيف عاش ونما سكانها. ولم يقتصر الباحثون على السجلات والمخطوطات التاريخية لتلك الحقبة التي كانت موجودة في المناطق الآشورية وخارجها، ولكن أيضاً على وقائع مختلفة من تاريخ مناخها، إذ تم جمع المعطيات بواسطة الأقمار الاصطناعية، وتم تحليل عينات من الصخور والماء والأجزاء الأخرى من الطبيعة المحيطة.
وكما يؤكد شنايدر وقداح، فإن الميزة الأساسية للحضارة الآشورية كانت تكمن في حياة التحضر المتطورة، إذ أن حياة سكان المناطق الآشورية كانت متركزة حول المدن التي شهدت كثافة سكانية أعلى بكثير من جميع دول بلاد ما بين النهرين الأخرى.
وكان المصدر الغذائي الرئيسي للمواطنين يأتي من خلال الأراضي شبه الصحراوية القاحلة، التي لم تكن صالحة لزراعة الحبوب والمحاصيل الأخرى التي تحتاج إلى ري مستمر. مع الإشارة إلى أن هذه الأراضي تعاني في عصرنا الحالي بصفة دورية من الجفاف، والذي يستمر لأربع إلى خمس سنوات. وفي هذه الفترات ينخفض مستوى المحاصيل بشكل حاد، مما يسبب مشاكل إنسانية على الأراضي العراقية التي تعتبر مركزاً للإمبراطورية الآشورية الغابرة.
وكما تظهر البيانات المناخية، فإن الوضع كان مختلفاً تماماً في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر قبل الميلاد، إذ أن مناخ هذه المناطق كان أكثر لطفاً، ومستوى هطول الأمطار كان أعلى من ذلك بكثير. وفي حال حدوث جفاف فكان لفترة قصيرة نسبياً، ونادراً ما كان يستمر إلى أكثر من عام، علماً أن المؤرخين يذكرون كثيراً في كتاباتهم عن الفيضانات والأمطار الكثيفة المواتية لمواسم الحصاد.
وفي بداية القرن السابع قبل الميلاد تغير الوضع بشكل كبير، فقد أصبح المناخ في المناطق الآشورية جافاً بشكل تدريجي حتى منتصف القرن، عندما بدأت المنطقة تعاني من جفاف كامل. ووفقاً لما كتبه المنجم والكاهن أكولان، في إحدى رسائله إلى الملك آشور بانابال وهو آخر إمبراطور آشوري، فإنه لم يكن لدى المزارعين، في عام 657 ق.م، محاصيل على الإطلاق بسبب انعدام كامل تقريباً للأمطار.
وهذه المشكلة لم يكن لها أن تكتسب خطورة كبيرة لو أن اقتصاد الإمبراطورية لم يكن يعتمد آنذاك على الزراعة، إذ أن جميع المدن الآشورية كانت تعيش، قبل الفترة الانتقالية في القرن العاشر، بفضل ما يسمى بالزراعة الجافة، والحديث يدور عن زراعة الحبوب والمحاصيل الأخرى بدون استخدام أنظمة الري، حيث كانت الأمطار مصدر المياه الوحيد لهذه المزارع، وهذا حدّ من حجم القرى الآشورية، إذ أن مثل هذه الحقول بإمكانها أن تطعم عددا قليلا فقط من المواطنين.
ومع الانتقال إلى الإمبراطورية تغير الوضع، إذ أنه بعد كل حملة ناجحة، قام ملك آشور بتوطين جزء كبير من الشعوب المهزومة في المناطق الوسطى للدولة، وبسبب ذلك ازداد حجم كثافة السكان بشكل كبير في القرنين الأولين من وجود الإمبراطورية. وبالإضافة إلى ذلك، كان معظم الملوك الآشوريين يعملون على بناء المدن، وبالتالي كانوا ينهجون سياسة التوسع الحضاري.
ونتيجة لذلك أصبحت العاصمة الإمبراطورية نينوى أضخم مدينة في تلك الحقبة مع توسيع مساحتها من 150 حتى 750 هكتارا. إلا أن الجزء الكبير من المستوطنات الجديدة في نينوى وفي مدن آشورية أخرى كانت مبنية على أراضي الحقول الخصبة، وهذا ما سبب في نقص مزمن في الموارد الغذائية.
وكما يعتقد المؤرخون بأن ما يجري حالياً على أراضي سورية وشمال العراق يشبه إلى حد كبير ما كان يجري في الإمبراطورية الآشورية، حيث أن سلسلة موجات الجفاف، في مطلع القرن الحادي والعشرين، بسبب تغير المناخ، أثرت بشكل سلبي على حجم المحاصيل الرئيسية في المنطقة. وهذا أدى إلى تردي مستوى الحياة، وأجبر الناس على البحث عن خلاص من خلال السياسة والدين، كما هو واضح عبر تشكيل خلايا تنظيم "الدولة الإسلامية" والجماعات المتطرفة الأخرى.
وختم الدكتور سليم قائلاً: "يمكن فهم سبب تركيز اهتمام الإمبراطورية الآشورية على الأهداف السياسية والاقتصادية القصيرة الأجل، وعدم الاهتمام بالمخاطر المناخية المتزايدة. ويمكن أيضاً أن نغفر لها ذلك إلى حد ما، مع الأخذ بعين الاعتبار مستوى تطورها العلمي وفهم كيفية تطور الطبيعة. أما بالنسبة لنا، فإن مثل قصر النظر هذا، لهو أمر لا يغفر له، إذ أنه لا يمكن أن يكون هناك أعذار، خاصة وأننا نعرف ما حدث في الماضي. فدروسه تظهر لنا، بشكل واضح، ما الذي يحدث عندما لا يأخذ الساسة بعين الاعتبار مشاكل وتحديات التنمية المستدامة على المدى الطويل.