عامر راشد
لا وقت للفرح احتفاء بعيد الأم ولو ليوم واحد فقط، ولا حتى للحظة عابرة، فالمدافع لم تصمت في سورية والعراق وليبيا، والإرهاب المتطرف ضرب بدموية في اليمن وشمال سورية وتونس، محوِّلاً الاحتفال بيوم الأم إلى بحيرة من الدماء الممزوجة بدموع الأمهات.
كان من حق الأمهات أن تحترم قدسية ورمزية عيدهن، بتحريم سفك الدماء فيه، وأن يكون يوماً لمراجعة الذات والتسامح، غير أن ذلك بقي مجرد أمنيات معلقة، لكنها تظل الشغل الشاغل للأمهات كهدف يكافحن من أجله، فالحرب والعمليات الإرهابية تسرق منهن ربيع أعمارهن، وفلذات أكبادهن، ولن ينقذ البقية سوى وقف الحرب، وأن يقف المتحاربون أمام أنفسهم كي يحاسبوها، ليتم فتح صفحة جديدة في حياة شعوبهم، يحرَّم ويجرَّم فيها القتل والعنف.
فمن المعاني السامية التي يعلمنا إياها يوم الأم: الإنسان خلق كي يحيا ومن حقه أن يعيش بكرامة، وخير الشعوب هي تلك التي تعلم أبناءها أبجدية الحياة والتسامح واحترام الآخر، وليس أبجدية الموت والحقد والكراهية، فالأوطان لا يكون لها معنى إلا إذا احترم فيها حق الحياة، وهذا ما تدركه كل أم بغريزتها العفوية، وتربي عليه أولادها، ولذلك كانت رسالة الأمهات على الدوام المحبة والتآخي، وحفظ النفس البشرية.
وما أحوجنا هذه الأيام إلى أن نتذكر رسالة الأمهات الأبدية في عيدهن، وأن نعمل بهديها، فلا قيمة للاحتفاء بعيد الأم بينما الأبناء والأحفاد يقتلون في ساحات الحرب، وفي عمليات قتل إرهابية اجرامية تستهدف المساجد والمدارس والأسواق والساحات العامة، ولو سألنا أي أم عربية، في سورية أو العراق أو ليبيا أو اليمن أو فلسطين أو السودان أو الصومال، عن الهدية الحقيقية التي تتمنى أن تحصل عليها في عيدها لأجابت دون تردد: أن تتوقف عجلة الموت، ولا يظل الآباء يدفنون أبناءهم في حروب عبثية، وأن يعود اللاجئون والنازحون والمهجرون إلى ديارهم، وترجع الألفة والمودة بين أبناء الوطن الواحد.
فمأساة اللجوء والنزوح والهجرة لا تقل عن مأساة الحرب والدمار بالنسبة للأمهات، وغالبية الأمهات اليوم صرن يتمنين أن يلتم شمل العائلات، التي توزع أفرادها بين القارات الخمس، بحثاً عن سماء دون دماء ودمار وجوع، وعن بيت يعطي للأطفال الأمان الذي فقدوه في أوطانهم، ولعلها من المفارقات النادرة في التاريخ المعاصر للبشرية أن كل أخ، في عشرات الآلاف من العائلات السورية والعراقية والفلسطينية، بات يحمل جنسية مختلفة عن جنسية أخيه، خلال السنوات القليلة الماضية، وبات حلم الهجرة هاجس الكثيرين ممن نزحوا إلى دول الجوار، يغامرون من أجله بحياتهم وحياة أبنائهم، ويدفعون لتجار البشر كل ما يملكونه، وغالباً يتعرض البعض منهم لصدمات وخيبات أمل في أوطان اللجوء الجديدة، رغم كل التسهيلات التي تقدمها لهم السلطات فيها.
وفي الهجرة أيضاً تدفع الأمهات ثمناً مضاعفاً، بحرمانهن من أولادهن وبناتهن، ممن تجاوزوا أو تجاوزن عمر 18 عاماً، وكذلك في العبء الملقى على عاتقهن لإعادة ترتيب أوضاع الأسرة نفسياً في المجتمع الجديد، للتخفيف من صدمة الانتقال، فضلاً عن حرمان الجدات من أحفادهن.
ان ما تحتاجه الأم العربية في يوم عيدها احترام أمومتها، بالحفاظ على أولاً حياة وكرامة الأبناء والأحفاد، وليس إقامة احتفالات رسمية يكال فيها المديح للنساء الأمهات، أو تخصيص برامج تلفزيونية وإذاعية لهذا الغرض، في حين تدمي قلوبهن مآسي الحروب والترويع والتهجير والنزوح واللجوء.
وللأسف يبدو أن معاناة الأمهات العربيات ستمتد لفترة طويلة قادمة، فلا يوجد في الأفق ما يشجع على الاعتقاد بأن الحروب ستضع أوزارها قريباً، أو أن جرائم المجموعات الإرهابية المتطرفة تراجع حدتها، أو أن رحلات الموت في البحر الأبيض المتوسط ستتوقف إلى غير رجعة.
وحتى تلوح بارقة أمل بتحقق كل ما سبق ستبقى الأمهات العربيات أسيرات للأحزان في عيدهن، تحريرهن منها يتطلب من الجميع البحث عن إنسانية الإنسان في داخله، والامتثال لقيمها ومبادئها، بوقف القتل العنف والابتعاد عن الإرهاب والتطرف، وهذا هو التكريم الذي تنظره الأمهات، اللاتي يتمنين أن يكون الاحتفال بعيدهن بلا دماء أو دموع.