وتثير القضايا التاريخية حساسية كبيرة بين الجزائر وفرنسا، لأن الكثير من الخلافات بشأنها لا تزال عالقة، ومنها ما حدث في نهاية الحرب العالمية الثانية من اضطرابات خلفت آلاف القتلى في أيام معدودة.
ويقول معد التقرير أحمد روابة لهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) "عندما كانت أوروبا تحتفل بانتصار الحلفاء على ألمانيا النازية، وانتهاء الحرب العالمية الثانية، كان الجزائريون يأملون في التعبير عن حقهم في الحرية والاستقلال، إذ ساهموا في محاربة النازية وتحرير باريس من الاحتلال الألماني".
فقد شارك أكثر من 150 ألف جزائري في الحرب ضمن الجيش الفرنسي بقيادة الجنرال شارل ديغول.
وكان حزب الشعب الجزائري، المحظور منذ 1939، يحضر لمسيرات ومظاهرات ضمن الاحتفالات بانتصار الحلفاء ونهاية الحرب العالمية، للمطالبة بالإفراج عن زعيمه، مصالي الحاج، وبحق الجزائريين في الحرية والاستقلال.
الحق في الحرية
فخرج نحو 10 آلاف جزائري في مدينة سطيف، شرقي البلاد، يحملون أعلام بريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفيتي، ولافتات تطالب بتحرير مصالي الحاج وبحق الجزائريين في الحرية والاستقلال.
لكن سرعان ما تحولت المسيرات الهادئة والاحتفالات إلى اشتباكات ومواجهات دامية، بعدما أطلقت الشرطة الفرنسية النار على شاب من الكشافة الإسلامية، بعدما رفع العلم الأبيض والأخضر، رمز السيادة الجزائرية والاستقلال.
قتل سعال بوزيد، 22 عاما، في الميدان، مسجلا اسمه في قائمة رموز المقاومة الجزائرية الطويلة ضد الاحتلال الفرنسي.
وحاولت شرطة الاحتلال الفرنسي مدعومة بالجيش قمع الاحتجاجات مستخدمة الهراوات والذخيرة الحية، لكن تدخلها زاد من اشتعال الغضب وانتشاره إلى مدن مجاورة، منها قالمة وخراطة، شهدت بدورها اشتباكات عنيفة.
وقتل مئات الجزائريين برصاص الشرطة والجيش، وكذلك على يد مليشيا المستعمرين الأوروبيين، المعروفين باسم "الأقدام السوداء"، كما هاجمت مجموعات من الجزائريين الأحياء التي يقيم بها الأوروبيون، فقتلت العشرات منهم، أغلبهم طعنا بالأسلحة البيضاء.
وبعد 5 أيام من القمع تمكنت قوات الشرطة والجيش، بدعم مليشيا "الأقدام السوداء"، من إحكام السيطرة على المدن المضطربة، لكن الغضب الشعبي كان قد وصل القرى والأرياف، التي بدأت تعتمل فيها الانتفاضة.
فلجأت سلطات الاحتلال إلى القوات الجوية التي أفرغت نحو 40 طنا من القنابل ما بين 9 مايو/ ايار و19 مايو/ ايار على المناطق الريفية التي كانت تحضر رجالها للتصدي لأي تدخل والانتقام لقتلى المسيرات في المدن.
وأغارات السفن الحربية أيضا على المدن الساحلية التي شهدت اضطرابات.
تضارب في الأرقام
تقول الأرقام الفرنسية الرسمية أن الأحداث خلفت 100 قتيل بين الأوروبيين، وما بين 1500 و2000 من الجزائريين، ولكن المسؤولين الجزائريين يقولون إن نحو 45 ألف جزائري قتلوا على يد قوات الاحتلال ومليشيا "الأقدام السوداء" في سطيف، وقالمة، وخراطة.
أما المؤرخون الفرنسيون فيقولون، استنادا على إفادات شهود، وتقارير الشرطة والاستخبارات، إن عدد القتلى الجزائريين يتراوح ما بين 15 ألفاً و20 ألفاً، في سطيف وقالمة، وخراطة وحدها.
وبعد عمليات القمع العنيفة، كان على المتظاهرين مواجهة التهم الموجهة لهم في محاكم الاحتلال، التي قضت بإعدام 28 منهم، بينما حكمت بفترات سجن طويلة على 60 آخرين.
وفي نهاية الثمانينيات أنشأ السياسي البارز، ورئيس مجلس الأمة السابق، بشير بومعزة، جمعية "8 مايو 1945" بهدف مطالبة فرنسا بالاعتراف بمجازر سطيف وقالمة وخراطة، والاعتذار وتعويض ضحاياها الجزائريين.
ولكن فرنسا لم تعترف أبداً بهذه "المجازر". وكان أول مسؤول فرنسي يتحدث رسميا في هذه القضية، سفير فرنسا في الجزائر، هوبير مولين دي فيردريار، الذي زار موقع الأحداث في سطيف، ووصفها بأنها "مأساة لا تغتفر".
أفران النازية
وفي عام 2005، أثار الرئيس الجزائري، عبد العزيز بوتفليقة، حفيظة المسؤولين الفرنسيين، عندما شبه قتل الجزائريين وحرق جثثهم عام 1945 بأفران النازية. ودعا الدولة الفرنسية إلى الاعتراف بارتكابها مجازر في سطيف، وقالمة وخراطة.
لكن البرلمان الفرنسي تحت حكم الرئيس السابق، نيكولا ساركوزي، أقر قانونا ينص على تدريس "القيم الإيجابية" للاحتلال الفرنسي، خاصة في شمال أفريقيا، لطلبة المدارس الثانوية.
وأثار هذا القانون موجة انتقادات للحكومة الفرنسية، وحزب ساركوزي، في الجزائر، وفي أوساط الجالية الجزائرية في فرنسا.
وفي مطلع هذا العام، زار الوزير الفرنسي المكلف بشؤون قدامى المحاربين والذاكرة، جوون مارك توديشيني، مدينة سطيف، ووضع إكليلا من الزهور أمام النصب التذكاري "للمجازر".
لكن هذه اللفتة لا يبدو أنها أقنعت الجزائريين، إذ يقول الكاتب الصحفي، محمد عباس، المتخصص في الحركة الوطنية الجزائرية، إن الجزائر لا تزال تنتظر اعتذارا رسميا من الدولة الفرنسية.
ويعتقد عباس أن ما تقوم به المنظمات وجمعيات المجتمع المدني على غرار، جمعية "8 مايو 1945"، لا يكفي لإقناع فرنسا بضرورة الاعتذار، وإنما على الدولة الجزائرية أن تتبنى القضية رسميا، وهو ما لم تفعله، حسب رأيه.
أما الأستاذ الجامعي والباحث في التاريخ، محمد القورصو، الذي كان رئيسا لجمعية "8 مايو 1945"، فيدعو إلى فتح الأرشيف أمام الباحثين للكشف عن حقائق ما وقع عام 1945، وإطلاع الرأي العام عليها.
ويعتقد القورصو أن المسؤولية تقع على الجزائريين في البحث عن الحقيقة التاريخية، ومطالبة فرنسا بالاعتراف بما ارتكبته في حق الجزائريين إبان الاحتلال الذي دام 130 عاما.