عامر راشد
لم تكد دولة جنوب السودان تخطو خطواتها الأولى على طريق الانفصال عن دولة السودان، والإعلان عنها كدولة مستقلة، نزولاً عند نتائج استفتاء شعبي عام 2011، أجري تطبيقاً لـ"بروتوكول ماشاكوس"، وهو اتفاق إطاري تم التوصل إليه بوساطة منظمة (إيغاد) في تموز (يوليو) من عام 2005، حتى دخلت البلاد مرة أخرى في صراعات مريرة، بين رفاق الأمس، وبرزت حالات تمرد على السلطة المركزية من داخلها، تهدد بحرب أهلية مفتوحة وعلى نطاق واسع، وتفتيت البلاد إلى مجموعة من الدويلات، مما استدعى جهود وساطة دولية وإقليمية فشلت حتى الآن إقناع طرفي الصراع بالقبول بحل وسط.
تعقيدات الوضع الذي وصلت إليه دولة جنوب السودان، خلال الفترة القصيرة الماضية من تجربة الاستقلال، عكستها إجابات وزير الإعلام الجنوب أفريقي، مايكل ماكوي، في مقابلة أجرتها معه صحيفة "الشرق الأوسط"، 8 أيار (مايو) 2015، حيث اتهم الوزير منظمة (إيغاد) بالتحيز إلى جانب النائب السابق للرئيس، رياك مشار، والسعي إلى إسقاط نظام الرئيس سلفا كير ميارديت، "لفرض وصاية دولية على جنوب السودان"، وفقاً لما قاله وزير الإعلام الجنوب سوداني.
الوزير استند في اتهامه لمنظمة (إيغاد) إلى اعتبار أن طرحها اقتراح تشكيل قوة عسكرية أفريقية، ونشرها في دولة جنوب السودان، لاسيما العاصمة جوبا، يهدف إلى وضع جوبا تحت وصاية دولية، بتواطؤ مع مجموعة الترويكا الغربية الخاصة بجنوب السودان، الولايات المتحدة وبريطانيا والنرويج، التي استجابت في دعمها للاقتراح إلى إعطاء تطمينات لرياك ميشار، مقابل تراجعه عن مطلب نشر قوات تابعة له في نجامينا إلى جانب القوات الموالية للرئيس سلفا كير ميارديت.
بالإضافة إلى اعتراض حكومة جنوب السودان على تهديد الأمم المتحدة لها بفرض عقوبات عليها، في حال استمرت في اتخاذ مواقف متصلبة من الاقتراحات المطروحة لإيجاد تسوية سياسية تنهي النزاع بين الرئيس سلفا كير ونائبه السابق رياك مشار.
وزير الإعلام الجنوب سوداني لم يكتف بتوجيه هذا الاتهام لـ(إيغاد) والترويكا الغربية الخاصة بجنوب السودان، بل اعتبر أنهما، ومعهما منظمة الأمم المتحدة، تعوزهما الكفاءة للوساطة بين الرئيس ونائبه السابق، متناسياً أن الجهات الثلاثة لعبت الدور المحرك لقيام دولة مستقلة في جنوب السودان.
إلا أن ما قاله الوزير يشكل اعترافاً متأخراً بالدور السلبي الذي لعبته الولايات المتحدة وبريطانيا، وعدد من الدول الأوروبية الغربية لتمرير خيار انفصال جنوب السودان عن شماله، بدءاً من فرضه على منظمة (إيغاد)، التي رضخت في "بروتوكول ماشاكوس" لتعنت القيادات الجنوبية في المطالبة بالانفصال بدعم غربي، وصولاً إلى شن حملات مكثفة لدفع المشاركين في استفتاء تقرير المصير نحو التصويت بـ(نعم للانفصال)، علماً بأن غالبية الدول الأفريقية لم تكن مع هذا الخيار، كونه سيشكل سابقة، تجر إلى حالات مشابهة في العديد من البلدان الأفريقية تعاني من انقسامات عرقية ودينية وقبلية.
كما أن دول جوار السودان كانت تخشى من أن يتحول جنوب السودان إلى بؤرة صراع مفتوح يزعزع الأمن والاستقرار في المنطقة، بانفجار حرب أهلية- قبلية للصراع على السلطة وتقاسم الثروات، وتأمين ملاذ لحركات وجماعات متمردة ستجد في غياب السلطة في جنوب السودان فرصة لممارسة أنشطتها، واتخاذ أراضيه كقواعد لوجستية وقواعد انطلاق لتهديد استقرار دول الجوار، التي تعاني من مشاكل كبيرة على هذا الصعيد. وخلال السنوات الأربعة الماضية ازدادت تلك المخاوف، وبات جنوب السودان يعاني من مشاكل سياسية واقتصادية واجتماعية مستفحلة، وخطر المجاعة، جراء الصراع القبلي الدموي، وسيطرة المتمردين على المناطق الغنية بالنفط، مما دفع بنخب سياسية جنوب سودانية إلى المطالبة بإعادة طرح خيار الوحدة مجدداً بين الشمال والجنوب.
إن حالة التردي التي وصل إليها جنوب السودان كانت متوقعة، بل كانت كل المؤشرات تؤكد أنها مُرجحة، وتحذر من أن حكومة جوبا ستتحمل أعباء كبيرة، تستلزم جهوداً ذاتية جنوب سودانية، وعدم التعويل على الدعم الخارجي، أساسها توفير الجهد الذاتي بناء نظام حكم ديمقراطي ورشيد، يعبر عن مصالح وتطلعات كل المكونات القبلية والعرقية، وهذه بالتأكيد ليس مهمة سهلة في بلد لا يمتلك بنية مجتمعية متبلورة بالمقاييس المتعارف عليها.
ورفض المقترحات المقدمة من جهات وساطة إقليمية ودولية، دون تقديم بدائل، يعكس مأزق الحكومة وانسداد افقها، مما يجعلها تصنف الحلفاء الأقرب في الأمس كأعداء اليوم، بينما تبدي عجزاً إزاء تقديم مقترحات خاصة تشكل أرضية لتوافق كل القوى السياسية الرئيسية، وتنهي عوامل الحرب الأهلية، وتقود إلى تجسيد الاستقلال والاستقرار.
ومن الجيد هنا أن تعي حكومة جوبا أخيراً أن الولايات المتحدة وبريطانيا والعديد من القوى الغربية لا تعمل في سياساتها الخارجية من أجل مصالح الشعوب، بل خدمة لأطماعها الاستعمارية، التي تقاطعت في الماضي القريب مع دعوات انفصال جنوب السودان عن شماله، وستدعم بالتأكيد إعادة تقسيم جنوب السودان أو شماله إذا اقتضت مصالحها ذلك، وامتلك الأدوات لتنفيذ مخططاتها.