قال فودة "تبدأ الدائرة المفرغة في دورتها المفزعة.. ففي غياب المعارضة المدنية، سوف يؤدي الحكم العسكري إلى السلطة الدينية، ولن ينتزع السلطة الدينية من مواقعها إلا الانقلاب العسكري، الذي يُسلم الأمور بدوره، بعد زمن يطول أو يقصر، إلى سلة دينية جديدة. وهكذا وأحيانا يختصر البعض الطريق فيضعون العمامة فوق الزي العسكري، كما حدث ويحدث في السودان"، وهذا ما سنتطرق اليه بعد قليل.
القاهرة — مروان عبدالعزيز
اعتقال مباغت
لم يلبث الرئيس السوداني عمر البشير، الذي اكتسح الانتخابات السودانية التي أجريت في أبريل/ نيسان الماضي بـ94.5% في انتخابات نافس فيها نفسه، قضاء سنته الأولى من فترته الرئاسية الجديدة حتى أمرت المحكمة العليا في جنوب أفريقيا بتوقيفه ومنعه من مغادرة جوهانسبرج، التي يزورها حاليا للمشاركة في أعمال القمة الأفريقية، على خلفية توصية من المحكمة الجنائية الدولية التي دعت سلطات جنوب أفريقيا إلى اعتقال البشير لحين النظر فى القضايا المتهم فيها والمتعلقة بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، فيما قامت منظمة غير حكومية بإقامة دعوى قضائية بهذا الخصوص.
لم يتفهم أحد بيان الرئاسة السودانية الذي صدر ليل السبت، مؤكدا أن الرئيس عمر البشير توجه إلى جوهانسبرج متحديا مذكرة الجنائية الدولية التي تطالب باعتقاله، رغم علمه أن جنوب أفريقيا عضو في المحكمة الجنائية الدولية، وهو ما سيضيف عليها التزامات قانونية كبيرة بخلاف الدول الأخرى التي زارها البشير أخيرا ولم تكن عضواً فى الجنائية الدولية، إضافة إلى زيارات أخرى ألغاها لبلدان كثيرة كان آخرها إندونسيا فى أبريل/ نيسان الماضي.
عصا البشير
ويعد البشير أول رئيس في العالم يصدر في حقه مذكرة اعتقال من الجنائية الدولية، بعد فترة حكم للسودان امتدت لأكثر من 21 عاما، واعتاد الإعلان عن تحديه قرار "الجنائية الدولية"، وهو يرقص بالعصا تحت أنغام "أبشر يا بشير".
البشير تولى رتبه عميد فى الجيش السوداني، وقاد انقلاباً ضد حكومة الصادق المهدي فى تسعينيات القرن الماضي بدعم من الجبهة الإسلامية التي كان يتزعمها، حسن الترابي، الذى يعد الآن واحداً من ألد خصوم البشير حاليا، وتمكن بعدها البشير من تدعيم حكمه فى السودان التى تنقسم إلى أغلبية مسلمة تقطن الجزء الشمالي، وأقلية مسيحية تقطن الجزء الجنوبي واستطاعوا الانفصال وأسسوا دولتهم المستقلة تحت اسم "السودان الجنوبي"، شهور بسيطة حتى قام البشير بتطويق صديقة القديم حسن الترابي، وعرقل عمل المجلس الوطني الذى كان يترأسه الترابي وقام بحله.
رايات الإسلام
وقبل التطرق إلى جرائم دارفور الصادر بشأنها حكم توقيف البشير في جنوب أفريقيا، فقد تمكن البشير من تغيير قواعد اللعبة في السودان حيث استطاع العقيد في بزته العسكرية أن يتلحف فوقها الزى الإسلامي من خلال رفاقه في الجبهة، ولم يترك فرصة واحده تسمح له في بناء "مجتمع سوداني قائم على النزعة القبلية والدينية"، وبعد فترة من الزمن قام بالتخلص من الزي الإسلامي بعد تطويق رفاق الانقلاب، وعاد مرة أخرى إلى زيه العسكري، لكن في طور أشرس، وهو ما كان يتحدث عنه فرج فودة بأن ما يحدث في السودان ما هو إلا عبارة عن شخص قرر أن يمسك العصا من المنتصف، دولة دينية تدار بمدرعات العسكرية، وقوانين عسكرية تغلقها عبارات "هذا ما قاله الله وما طالبنا به رسوله"، القمع تحت رايات الإسلام، وتطبيق الحدود عبر فوهات الرشاشات العسكرية.
أرقام جدلية
أرقام ضحايا النزاع في دارفور تتضارب بصورة واضحة ولازالت مثار جدل بين أطراف داخلية وخارجية وأممية معنية بالقضية. فهناك تقارير، أعدها باحثون غربيون، قالت إن أعداد الضحايا بلغت 200 ألف قتيل، هذا خلاف ما ذكرته تقارير الأمم المتحدة التي قالت إن أعداد الضحايا في الإقليم بلغت ما يقرب من 300 ألف قتيل، حسبما أورده، كبير مسؤولي الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، جون هولمز، في جلسة علنية أمام مجلس الأمن الدولي كانت قد أعدت لمناقشة الصراع في دارفو، إلا أن البشير نفسه خرج بعدد آخر للضحايا، وأكد أنهم لم يتجاوزا الـ9 آلاف قتيل. وعلى حسب موسوعة ويكيبيديا، فإن الصراع الذي نشأ في دارفور غربي السودان فإن تقديرات الأمم المتحدة تشير إلى وقوع 300 ألف قتيل ومليون مشرد، بينما تشير التقديرات السودانية غير الرسمية إلى 90 ألف قتيل و450 ألف مشرد.
كل هذه الأعداد المتضاربة من الضحايا سقطت في صراع بدأ في 2003 بين مجموعة من القوات الحكومية السودانية وقوات "الجنجاويد" المسلحة والمؤلفة من قبائل "البقارة والرزيقات" من جانب إضافة إلى مجموعات مسلحة منها "حركة تحرير السودان" و"حركة العدل والمساواة" على الجانب الآخر، وبناء عليه وقعت كل هذه الأرقام من الضحايا والمشردين إلى جانب قيام البشير بطرد أكثر من 16 منظمة من منظمات الإغاثة وتقديم العون للنازحين من الحرب في الإقليم.
جرائم حرب
كانت مذكرة الاعتقال بحق البشير صدرت في 4 مارس/ آذار 2009 من قبل المدعي العام بمحكمة الجنايات الدولية في لاهاي، لاتهامه بارتكاب جرائم حرب في إقليم دارفور السوداني. ووجهت للبشير سبع تهم منها ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، والترحيل القسري والتعذيب، إضافة إلى تهمتين تندرجان بين جرائم الحرب منها قيادة الهجمات ضد السكان المدنيين، إلا أن المحكمة لم توجه له تهمة ارتكاب أعمال إبادة جماعية لعدم وجود أدلة كافية على ذلك.
ورغم صدور مذكرة الاعتقال بحق البشير قام بعدد من الجولات والزيارات "المحسوبة" خارج الأراضي السودانية، لكن الآن بعد قرار المحكمة العليا فى جنوب أفريقيا عادت "أرواح" ضحايا دارفور للظهور مجددا فى جنبات شوارع جوهانسبرج لتحاصر البشير الذى يبقى مصيره معلقاً إلى الآن، رغم التطمينات الكبيرة التي أطلقتها وزارة الخارجية السودانية والنفي القاطع لما تردد بأن هناك توقيفا مرتقبا للبشير، قائلة إن "البشير يشارك حاليا في جلسات القمة الأفريقية ويلتقي القادة والزعماء الأفارقة". ومن جانبه، قال الملحق الإعلامي بالسفارة السودانية لدى جنوب أفريقيا، سيف الدين البشير، إن عدداً من منظمات المجتمع الدولي حاولت الضغط على إحدى محاكم الموضوع بجنوب أفريقيا لاتخاذ خطوة تجاه الرئيس عمر البشير، مؤكداً أن هذه المحكمة تعتبر محكمة موضوع لا تستطيع تحريك أي إجراء في مواجهة أي دبلوماسي، لافتاً الانتباه إلى أن البشير رئيس دولة ويتمتع بالحصانة.
"أبشر يا بشير"
ويتواصل الغموض بشأن مصير البشير وهل سيتمكن من مغادرة جوهانسبرج، وسط أنباء تترد أن محكمة بجنوب افريقيا مددت أمراً يوم الأحد بمنع الرئيس السوداني عمر حسن البشير من مغادرة البلاد لحين صدور قرار نهائي بشأن دعوات لاعتقاله بموجب مذكرة اعتقال اصدرتها المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي. وأرجأ القاضي، هانز فابريكيوس، الجلسة إلى صباح غد الاثنين، وحث حكومة جنوب أفريقيا على اتخاذ "كل الخطوات الضرورية" لمنع البشير —الذي يزور جوهانسبرج للمشاركة في قمة الاتحاد الافريقي — من مغادرة البلاد.
ويبقى مصير البشير عالقا بين التساؤلات والسيناريوهات المفتوحة على كل الاحتمالات؛ فهل سيتم إلقاء القبض على البشير "رئيس الدولة الذي يتمتع بحصانة"، وترحيله إلى لاهاي لمحاكمته، أم ستتخذ الأمور منحى آخر ويعود البشير مرة أخرى إلى الخرطوم ليعاود في خطاباته الشعبوية أمام أنصاره رفع عصاه ويتراقص بها على أنغام "أبشر يا بشير"؟ كلها ساعات قليلة وستجد تلك التساؤلات ردوداً وافية.