مقتل الطفل الفلسطيني الرضيع علي سعد دوابشة حرقاً على يد مستوطنين يهود، وإصابة والدي الطفل وشقيقه بحروق بليغة، في قرية دوما جنوب مدينة نابلس، فجر اليوم الجمعة، لم تكن الجريمة الأولى من نوعها ولن تكون الأخيرة طالما مازال القتلة يفلتون من الحساب، لكن الوحشية المفرطة التي نفذت فيها هذه الجريمة أجبرت الناطق باسم الجيش الإسرائيلي على اعتبارها أخطر حادثة في السنوات الأخيرة، ووصفها بأنها "إرهاب يهودي"، في اعتراف صريح بوجود يهود إسرائيليين يمارسون الإرهاب، بينما درجت الدعاية الإسرائيلية، لسنوات طويلة، على تسويق أن اليهود، ولاسيما الإسرائيليين منهم، كضحايا لما تدعي إسرائيل بأنه (إرهاب فلسطيني).
وحتى لا يتبادر إلى ذهن البعض بأن اعتراف الناطق باسم الجيش الإسرائيلي مجرد زلة لسان، وزير الدفاع الإسرائيلي، موشية يعالون، كرَّر في تعليق له على الجريمة الوصف، وأضاف "الحريق ومقتل طفل من أفظع الأعمال الإرهابية التي لا يمكن السكوت عنها ونحن ندينها بشدة… إسرائيل لن تسمح لإرهابيين يهود بالمس بحياة فلسطينيين في يهودا والسامرة —المقصود الضفة الغربية- وسوف نحاربهم بلا هوادة، وسنستخدم جميع الوسائل المتوفرة لدينا…".
مسؤولون إسرائيليون آخرون تباروا في إدانة الجريمة بأشد العبارات والأوصاف، لكنهم جميعاً كانوا يهدفون إلى التغطية على الجريمة الأكبر المتمثلة بالاحتلال الإسرائيلي المتواصل، وتوسيع الحكومات الإسرائيلية للخطط والمشاريع الاستيطانية والعمل على تنفيذها في أراضي الضفة الفلسطينية المحتلة عام 1967، بما فيها القدس الشرقية، وتقديم امتيازات هائلة للمستوطنين اليهود وتشجيعهم على التنكيل بالفلسطينيين وسرقة المزيد من أراضيهم.
وتشترك جميع الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة في كونها مشعلة حرائق، برفضها وقف الأعمال والمشاريع الاستيطانية، وعدم قبولها بالقرارات والخطط الدولية ذات الصلة كأساس لتسوية الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي بوسائل دبلوماسية، ومن جملة النتائج التي ترتبت على سياسات الحكومات الإسرائيلية تحوّل المستوطنين إلى عصا غليظة، في الميزان الداخلي الإسرائيلي، وكذلك في الأعمال الهادفة إلى إرهاب الفلسطينيين، والتي عبَّرت عنها الشعارات النازية التي كتبها منفذو جريمة حرق الطفل علي سعد دوابشة وعائلته وهم نيام، حيث كتب المجرمون في مكان الجريمة بالعبرية "انتقام" "و"يعيش الملك المخلص".
وباعتراف الإسرائيليين أنفسهم، أصبح المستوطنون اليهود يشكِّلون دولة داخل دولة، بل الحاكم الفعلي في إسرائيل، فهم من يوجهون دفة السياسات والموازنات الحكومية، والشغل الشاغل للساسة التذلل لهم وتحقيق مطالبهم. والمثال الأقرب على ذلك، صادقت حكومة نتنياهو يوم أول أمس على مشاريع لإقامة 300 وحدة سكنية جديدة في مستوطنة (بيت إيل) —شمالي رام الله- على الفور، وعلى الدفع قدماً بمشاريع بناء جديدة في المستوطنات اليهودية بسغات زئيف وراموت وغيلو وهار حوما، الواقعة خارج الخط الأخضر في القدس، وجاءت خطوة نتنياهو هذه بعد ساعات قليلة من قيام قوات الأمن الإسرائيلية بهدم العمارتين المعروفتين باسم "مشروع دراينوف"، في مستوطنة (بيت إيل)، تطبيقاً لقرار المحكمة الإسرائيلية العليا، أي أن حكومة نتنياهو عوضت المستوطنين ببناء مئات الوحدات الاستيطانية لهم بدل العمارتين اللتين تم هدمهما.
الوجه الآخر لممارسات الاحتلال، التي تختبئ خلف لإدانات لفظية دون رصيد، يتجلى في إفلات المجرمين المستوطنين من العقاب، فسلطات الاحتلال تختلق دائماً حججاً وذرائع لإسقاط التهم عنهم، وفي الحالات التي تكون فيها الجريمة بشعة غالباً ما تدعي الجهات الإسرائيلية المعنية بأن من نفذها يعاني من اختلال عقلي.
وعليه، رغم سابقة اعتراف الجيش الإسرائيلي بوجود إرهاب يهودي، لا يعني هذا الاعتراف شيئاً بالنسبة الفلسطينيين، لأنه لن يضع حداً لجرائم المستوطنين، أو للجرائم التي ترتكبها سلطات الاحتلال مباشرة، فإسرائيل التي تعودت على الإفلات من العقاب، على جرائمها بحق الفلسطينيين، تتخذ من سياسة الإفلات من العقاب مبدءاً من مبادئ سياستها كدولة احتلال، وتطلق يد المستوطنين.
ولن تغير إسرائيل من سياستها إلا عندما تصطدم بموقف جدي من قبل المجتمع الدولي، وهو موقف أخلاقي وإنساني حتى لا تذهب دماء الطفل الفلسطيني الرضيع علي سعد دوابشة هدراً، بعد أن قضى حرقاً في جريمة يندى لها جبين البشرية، وحتى لا تواصل الجريمة الأكبر المتمثلة باحتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية وسرقة المزيد منها يومياً من خلال الاستيطان.