لا تخلو الساحة السياسية الإسرائيلية من أصوات شجاعة، تستحق التقدير، لمجاهرتها بحقيقة المسؤولية التي تتحملها إسرائيل إزاء دوران العملية التفاوضية على المسار الفلسطيني- الإسرائيلي في حلقة مفرغة، على امتداد ما يقارب خمسة وعشرين عاماً من انطلاق العملية التفاوضية في مؤتمر مدريد.
إلا أن تلك الأصوات تظل غير مسموعة، ولا تأثير لها في الخارطة السياسية والحزبية القائمة، لكنها تفضح، في شكل أو آخر، عجز البنية الحزبية والسياسية عن تلبية متطلبات السلام، وعدم إمكانية تغيير هذا الوضع إذا لم تتغير البنية الحزبية والسياسية جذرياً، بحيث يصبح البحث عن تسوية سياسية للصراع مع العرب و الفلسطينيين، والاستعداد لدفع ثمن هذه التسوية، بإنهاء الاحتلال عن كامل الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة عام 1967، والاعتراف بالحقوق الثابتة والمشروعة للشعب الفلسطيني، والتخلي عن السياسات التوسعية، وإخلاء المنطقة من أسلحة الدمار الشامل.
ولا تخلو الساحة السياسية والحزبية الإسرائيلية كذلك من أصوات تحاول خلط الأوراق، وهي بقصد أو دون قصد إنما تصب في نهاية المطاف في صالح إدعاءات اليمين الإسرائيلي المتطرف، بحرفها الأنظار عن المشكلات الحقيقية، وإغراق النقاش في تفصيلات جزئيةللالتفاف على جوهر الصراع العربي والفلسطيني- الإسرائيلي.
جانب من جوانب معضلة تعاطي الحالة السياسية والحزبية في إسرائيل مع موضوع تسوية الصراع العربي والفلسطيني- الإسرائيلي الصراع الداخلي الإسرائيلي، في جزء كبير منه لا يتعلق بالصراع العربي والفلسطيني- الإسرائيلي مباشرة، بل بقضايا داخلية إسرائيلية بحت، تمت لسنوات طويلة التغطية عليها من خلال تعليقها على مشجب الادعاء بأخطار وجودية، ناتجة عن الصراع مع الفلسطينيين، رغم أن إسرائيل هي التي كانت المبادرة إلى كل الحروب، باستثناء حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973، ووضع لتك الحروب أهدافاً توسعية، مازالت تعمل عليها في القدس الشرقية وباقي أراضي الضفة الفلسطينية المحتلة عام 1967.
لكن يتم استغلال هذا الجانب لتمييع الموقف، على نحو خطير، بالتعامل مع موضوع الاحتلال كملف داخلي إسرائيلي، الإسرائيليون يقررون وحدهم، وبإرادة ذاتية منفردة، شكل وماهية وتوقيت الحل، وما على الفلسطينيين والعرب إلا القبول بما يقرِّره الإسرائيليون.
الناشطان السياسيان الإسرائيليان؛ موشيه كاريف- مدير عام "صدى" ومؤسس القوس الديمقراطي الشرقي، وحاييم مندلسون- عالم فلك في مركز مراقبة الكواكب في جامعة تل أبيب، نشرا مقالة مشتركة في صحيفة "هآرتس"، بتاريخ 25/8/2015، تحت عنوان "هل اليسار الإسرائيلي مستعد لدفع الثمن الحقيقي للسلام؟"، وفي إجابتهما على هذا السؤال ألقيا اللائمة على اليسار الإسرائيلي، ليس لأنه غير مستعد لدفع فاتورة السلام مع الفلسطينيين، بل لأنه، على حد وصف كاريف ومندلسون، غير مستعد لدفع (الثمن الحقيقي).
ويفسر كاريف ومندلسون ما ذهبا إليه بالقول في مقالتهما المشتركة، التي قامت ترجمة مؤسسة الدراسات الفلسطينية، "من أجل إقامة سلام مع الفلسطينيين لا يكفي إجراء مفاوضات معهم، والاستعداد لدفع هذا الثمن الذي ليس هو الثمن الحقيقي. فالثمن الحقيقي مختلف، ويجب أن ندفعه إلى أطراف أخرى داخل إسرائيل. ذلك أن الشرط المسبق والضروري لإقامة السلام هو تشكيل ائتلاف في إسرائيل يكون واسعاً وقوياً بما فيه الكفاية من أجل دفع الثمن. المطلوب هو تشكيل ائتلاف للسلام..".
والثمن الحقيقي، وفقاً لما يدعيه كاريف ومندلسون، " تنازل أوساط اليسار عن سيطرتهم التاريخية على مراكز الاقتصاد والإعلام والأكاديميا وسائر مراكز القوة في دولة إسرائيل، ويتعين على أوساط اليسار القبول بتقاسم سيطرتهم على مراكز القوة هذه مع أوساط أخرى ومع مجموعات أخرى في الدولة". ويضيفان: "تحتاج إسرائيل إلى خريطة سياسية جديدة وخطاب مختلف. إنها بحاجة إلى طريق جديد لا يوجد فيه امتيازات، وقادر على احتواء الفسيفساء الإسرائيلية بكل أنواعها وطوائفها".
تحقيق ذلك يمر، حسبما يرى كاريف ومندلسون، من بوابة إصلاح مجالات أساسية في المجتمع الإسرائيلي وتوزيع عادل "مشكلة السيطرة على أراضي الدولة؛ ومسألة الحدود بين المجالس الإقليمية ومدن التطوير، وتوزيع المداخيل بينها، والسيطرة على المال وعلى الهيئات الاقتصادية؛ ومواقع التأثير على الإعلام؛ وتوفير التوازن بين الأوجه المختلفة للثقافة؛ والملاءمة بين تركيبتي المحاكم والمجتمع".
وفق هذا المنطق المغلوط، ينبغي على الفلسطينيين الانتظار حتى تحل الإسرائيليون صراعاتهم وتناقضاتهم الداخلية، وأن ينصاعوا لما تنتجه معادلة إسرائيلية جديدة، والتي يتمثل فيها (الثمن الحقيقي) للتسوية مع الفلسطينيين بأن يتنازل الإسرائيليون لبعضهم البعض، وليس التنازل للفلسطينيين، من منطلق زعم أن إنهاء الاحتلال تنازل؟! لكن هذا المنطق المقلوب على رأسه لا يمكن أن يغطي على بديهية أن أساس أي تسوية إنهاء الاحتلال والاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني أولاً، وثمة أصوات إسرائيلية جريئة لا تقبل على نفسها التستر على هذه الحقيقة.