رحلة الألف ميل التي بدأتها الأطراف السياسية المتصارعة في ليبيا، نحو الوصول إلى اتفاق لتسوية الأزمة في بلادهم، توجت أخيراً باتفاق بين مجلس النواب الليبي والأعضاء المقاطعين لجلساته في طبرق، وصفه المبعوث الدولي إلى ليبيا برناردينو ليون بالتاريخي، يؤسس لمرحلة جديدة تنتشل الحالة الليبية من ماراثون الحوارات ومسودات الاتفاقيات، وما تخللها من عثرات كبيرة، بالتعديلات والتعديلات المضادة، من الأطراف المشاركة في الحوار، على المسودات التي اقترحها المبعوث الدولي.
أهمية الاتفاق المذكور تكمن في أنه يعَّد ضرورياً من أجل معالجة بعض القضايا الرئيسية التي بقيت عالقة في الحوارات لفترة طويلة، بما يضمن التوافق والتعددية داخل مجلس النواب الليبي خلال الفترة الانتقالية المقترحة، لتنفيذ مخرجات الحوار. كما أنه وضع أساساً صلباً للتوقيع على اتفاق سياسي شامل يشارك فيه "المؤتمر الوطني العام"، بما سيساهم في إخراج ليبيا من حالة الصراع المسلح والخلافات السياسية، ورأب صدع الانقسامات المؤسسية التشريعية والتنفيذية والأمنية.
فالاتفاق يضع حداً لواحدة من المسائل الشائكة التي اعترضت جهود إنجاح الحوار على امتداد الشهور الماضية، تمثلت في توظيف الخلافات بين مجلس النواب والأعضاء المقاطعين لجلساته في إطار التنازع على الشرعية، بين "مجلس النواب" و"المؤتمر الوطني العام" والمؤسسات المنبثقة عنهما ـ ويمكن لهذا الاتفاق أن يسحب ورقة غاية في الأهمية من بورصة الضغوط على الحوار الشامل، حيث وضع الاتفاق حلولاً للعديد من النقاط العملية، تنفيذاً للمادة 17 من "الاتفاق الأممي"، تم تضمينها كملحق رئيسي للاتفاق السياسي.
بالإضافة إلى العديد من النقاط الأخرى بخصوص المقر المؤقت لانعقاد جلسات المجلس، ومراجعة النظام الداخلي للمجلس واللجان المشكَّلة، والقرارات التي أصدرها المجلس خلال الفترة الماضية، فضلاً عن وضع ضوابط ومقترحات لتطوير العمل التشريعي. وكل ذلك يقدِّم ضمانات لإنجاح عمل حكومة التوافق الوطني المقترحة، والتي ستتولى تنفيذ مخرجات الحوار، برقابة من "مجلس النواب" و"مجلس الدولة الأعلى".
إلا أن الساعات الأخيرة من جولة الحوار، المفترض أن تكون ختامية، في منتجع الصخيرات المغربي ستكون حاسمة، لأن الفرقاء المشاركين فيها معنيون بالإجابة على أبرز نقطتين خلافيتين، وهما تشكيل "مجلس الدولة الأعلى" وتعيين مسؤولي المناصب السيادية والأمنية، حيث يصر "المؤتمر الوطني العام" على بقاء تلك المناصب شاغرة وقت التوقيع على الاتفاق السياسي النهائي، وإحالة موضوعها لحكومة التوافق الوطني كي تبت بالأمر لاحقاً بتوافق أعضائها، وفي النقطة الثانية يطالب "المؤتمر الوطني العام" أن يكون "مجلس الدولة الأعلى" مشكلاً من كامل عدد أعضائه البالغ 134 عضواً.
يشار هنا إلى أن المبعوث الدولي برناردينو ليون، أبلغ "المؤتمر الوطني الليبي" موافقته على أن يكون "مجلس الدولة الأعلى" مكوناً من 164 عضواً، يتوزعون على 134 من أعضاء "المؤتمر الوطني العام" الحاليين، ويضاف إليهم ثلاثون من كتلة الـ94، التي انشقت عن "المؤتمر الوطني" العام الماضي على خلفية الصراع السياسي الليبي. وهذا الاقتراح في حال ثبت أن ليون قد اقترحه بالفعل، ولقي قبولاً من طرف "مجلس النواب"، من شبه المؤكد أن "المؤتمر الوطني العام" سيقبل به، مقابل التمديد لـ"مجلس النواب".
وبانتظار ما ستسفر عنه الساعات الأخيرة من حوار الصخيرات ثمة العديد من الاعتبارات الضاغطة على الأطراف المشاركة فيه، تدفع نحو حل القضايا العالقة، فالجميع يدرك أنه لن يكون متاحاً تمديد الحوار، لأنه استنفد سقفه الزمني، وعدم التوصل إلى اتفاق سياسي شامل سيعيد الحوار إلى نقطة الصفر، بانتهاء تكليف المبعوث ليون بعد أيام، وتعيين خلف له، من المتوقع أن يكون الألماني مارتن كوبلر، وتأكيد مصادر دبلوماسية دولية بأن المجتمع الدولي لن يتردد في التلويح باستخدام "العصا الغليظة"، كما وقع مع رئيس جنوب السودان، سيلفا كير ميارديت، على اتفاق السلام مع المتمردين، في أعقاب تهديد الأمم المتحدة بفرض عقوبات على حكومته.
لكن بارقة الأمل التي أطلقها الاتفاق بين "مجلس النواب" الليبي والأعضاء المقاطعين لجلساته في طبرق، وما يتسرب من جلسات الحوار في ساعاتها الأخيرة تبعث على التفاؤل، مع التأكيد على أن الليبيين قادرون على وضع خاتمة ناجحة لحوارهم، بالتوقيع على إتفاق سياسي شامل يضمن حل القضايا العالقة، الوصول إليها يتطلب إبداء مرونة متبادلة تهدف إلى تحقيق المصالح الوطنية العليا لليبيا.