مشهد لم يكن متوقعا بل كان صادما داخل البلدتين طوال سنين الحصار، جراء القصف العشوائي من قبل الجماعات الإرهابية. فعند التجوال في القرية تتسلل إلى المسامع كلمات يتداولها الأطفال فيما بينهم، وبلغة عامية يصرخ أحد الأطفال "طلعت"، يلتفت الجميع محدقين بالسماء وينتظرون بضع ثواني ليخبروك أين هي وجهة القذيفة. ثم يعطون التعليمات إما أن تختبئ أو تتابع سيرك، فرصد هؤلاء الأطفال أصبح الأقوى على مر سنين الحصار.
حاول ذاك الفتى إخفاء دمعة الاشتياق محملة بحزن الفراق، قائلاً: لم يفقد أياً من هؤلاء توأمه بقذيفة أطلقها المسلحون..
وفي مشهد آخر مثير للريبة… يصرخ طفل في السادسة بوجه أخيه الأصغر، قائلاً استر رأسك لا تقف تحت السماء وليس هناك ما يحميك. توجهت بالسؤال للأخ الأكبر، لماذا تصرخ على أخيك وكما ترى باقي الأطفال يلعبون في الشارع؟
كانت بضع دقائق تفصل الأب عن لقاء مولوده الجديد… امرأة في الثلاثينيات من العمر شاءت الأقدار أن تلد طفلها يتيماً، وتخسر زوجها الجندي برصاصة سلبت منه فرحة طال انتظارها. ثلاث سنوات ونيف هو عمر الحصار الذي آسى منه أهالي نبل، فرحة التحرير وفك الحصار لم يمنعا دموع الحزن أن تسقط من عيون ذلك الطفل الذي كان يبحث عن أبيه في وجه كل شخص يرتدي بزة عسكرية، ينتظر بصمت حارق، يدان تلفان به وتعطيه أمانا سلب منه لربما قادرة أن تعوضه عن حنان الأب، يؤكد جد ذاك الطفل بلقاء خاص لـ "سبوتنيك"، وهو والد الشهيد الذي غاب عن عائلته قبل أن يرى طفله الوحيد، أن الله عوضني بهذا الطفل بعد أن رحل ولدي الوحيد دفاعا عن هذه الأرض الطاهرة، ونحن نؤمن أنها حرب وجود ونفضل الموت على هذا التراب بدل القصور خارج البلدة.
بينما كان الناس يحتفلون بفك حصارهم، كانت أم علي تبكي على أولادها الثلاثة الذين فرقتهم الحياة ليجتمعون في قبر واحد، كان وقع خبر استشهاد ابنها الأول ثقيلا جدا، حتى يليه بعد ثلاثة أيام استشهاد ولديها على أطرف البلدة، تتجه نحو القبر لتخبر أولادها أن دماءهم لم تذهب رخيصة، بل بفضلها كان النصر والتحرير… لم تمنع تلك العصا الخشبية ذلك العجوز الستيني التراقص فرحا بفك حصار بلدته، مبتهجاً، محاولاً التعبيرعن فرحته الكبرى.
لم يكن أهالي نبل والزهراء في السنوات الماضية يعانون حصارا فقط، بل كان الرعب والهلع رفيق دربهم طوال تلك المدة يقضون أيامهم مترقبين الحدث الذي سيفطر قلوبهم من قبل جماعات لا تملك الرحمة، ولا تعرف معنى الإنسانية، ما بين قتل وذبح وتقطيع وإعدام واختطاف داخل كل منزل من منازل تلك القرية المحررة. هناك إما مخطوف مجهول المصير أو شهيد رحل لنبقا، وهناك أشخاص تحرق قلوبهم لوعة الفراق… ففي منزل أم علي كان هناك زوج شاء قدره أن يكتب اسمه في جداول المخطوفين، وابنة في مقتبل عمرها لم يمنع كرسيها المتحرك أن تصبح أسيرة مجهولة المصير… وطفل لم يلبث أن يكتشف معنى الحياة لتسلب تحت راية حريتهم… هذه هي بيوت تلك القرية