منذ صدور الإعلان عن إنشائها عام 1948 تعرّف إسرائيل نفسها بأنها "دولة يهودية ديمقراطية"، وفي السنوات الماضية وضعت الحكومات الإسرائيلية على طاولة المفاوضات مع الفلسطينيين شرط الاعتراف بما يسمى بـ"الطابع اليهودي لإسرائيل"، أو كما يعبر عنه بشكل أوضح في الخطاب السياسي الإسرائيلي "الاعتراف بإسرائيل كدولة قومية للشعب اليهودي"، وفي العام 2014 وضع بنيامين نتنياهو مشروع قانون تحت اسم "الدولة اليهودية القومية"، وادعى نتنياهو أن الهدف من هذا المشروع "تحديد هوية دولة إسرائيل بصفة (الدولة القومية للشعب اليهودي)، وتكريس قيم الدولة بصفتها (يهودية ديمقراطية)، تماشياً مع وثيقة إعلان دولة إسرائيل".
ادعاء يسقط أمام ما جاء في بند (المبادئ الأساسية) في نص المشروع، فقد جاء في الفقرة (ج) حرفياً "حق تقرير المصير في إسرائيل مقصور على الشعب اليهودي"، وجاءت الفقرة (د) شارحة للفقرة التي قبلها حيث أكدت على أن "إسرائيل دولة ديمقراطية تقوم على مبادئ الحرية والعدالة والسلام وفق رؤية أنبياء شعب إسرائيل، كما أنها تلتزم بالحقوق الشخصية لجميع مواطنيها بمقتضى القانون".
أي أن الفلسطينيين داخل الخط الأخضر، الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية، لا توجد لهم حقوق مواطنة متساوية مع اليهود، ولا حقوق وطنية أو قومية، ولا يتمتعون بحق تقرير المصير أو المشاركة في تقرير المصير داخل النظام السياسي الإسرائيلي، فهذا الحق مقتصر على اليهود، ليس في إسرائيل فقط بل أينما كانوا في العالم، فوفقاً للقوانين الإسرائيلية "يحق لأي يهودي القدوم إلى إسرائيل والحصول على الجنسية الإسرائيلية بمقتضى القانون"، بينما ممنوع على العائلات الفلسطينية الحصول على لمِّ شملها.
وكان من الطبيعي أن يُقابَل كل ذلك برفض فلسطيني قاطع، على المستويين الشعبي والرسمي، وظفت الحكومات الإسرائيلية كل ماكينتها الإعلامية والدبلوماسية لتشويهه في سياق محاولة تصوير الفلسطينيين بأنهم "يريدون القضاء على دولة إسرائيل"، بينما في واقع الأمر الفلسطينيون داخل الخط الأخضر يدافعون عن أنفسهم، وعن حقهم وحق أجيالهم القادمة في الحياة بحقوق مواطنة متساوية مع الجميع، وهو ما تنكره عليهم حكومة نتنياهو، كثابت سياسي متوارث بين الحكومات الإسرائيلية بصرف النظر عن هويتها الحزبية — الائتلافية.
معهد "بيو" الأميركي للبحوث أجرى استطلاعاً للرأي، في الفترة الممتدة بين تشرين الأول/أكتوبر 2014 حتى أيار/مايو 2015، شمل أكثر من 5000 مواطن إسرائيلي من جميع القطاعات، بمن فيهم مستوطنون في الضفة الفلسطينية المحتلة عام 1967، وأعلنت نتائج الاستطلاع قبل أيام، ويمكن فهم سبب التأخير لهذه الفترة الطويلة من خلال قراءة ردود الفعل الإسرائيلية على نتائج الاستطلاع، غضب حكومي وعلى مستوى الأحزاب اليمينية والدينية المتطرفة، وصدمة في أوساط العقلانيين الذين يرون بأن تطرف المجتمع الإسرائيلي سيرتد على نفسه، وأشارت صحيفة "هآرتس" في افتتاحيتها الصادرة بتاريخ 11/3/2016، بالتحذير إلى أن "نتائج الاستطلاع مثيرة للقلق، لكن خطورتها تزداد أيضاً لأنه خلال الفترة التي فصلت بين إجراء الاستطلاع ونشره ازدادت حدة التصدعات داخل المجتمع الإسرائيلي أكثر فأكثر".
من بين النتائج المثيرة للقلق حسب صحيفة "هآرتس"، والعديد من مراكز الدراسات والأبحاث السياسية الإسرائيلية، ووجهات نظر كتاب وباحثين ومحللين إسرائيليين مرموقين، أن من صنفوا نفسهم في الاستطلاع بأنهم تقليديون أو متدينون، وهم يشكلون ما نسبته 50% ممن شملهم الاستطلاع، يفضلون اليهودية على الديمقراطية، "مما يهدد الرهان على وجود دولة يهودية ديمقراطية"، حسب افتتاحية صحيفة "هآرتس".
ماذا بخصوص الفلسطينيين؟ الإجابة جاءت صادمة أكثر بفجاجتها، ومحرجة لحكومة نتنياهو، ولكل الأحزاب الإسرائيلية — الصهيونية، من أقصى اليمين إلى اليسار، فاستناداً إلى نتائج استطلاع معهد "بيو" أربعة من كل خمسة يهود يقفون إلى جانب التمييز لصالح اليهود، و48% يوافقون على القول بأنه "يجب طرد العرب أو نقلهم من إسرائيل". الأصوليون، المتدينون والتقليديون يؤيدون ذلك بأغلبية كبيرة. وهناك ما نسبته 35% في أوساط من يصنفون أنفسهم كعلمانيين، يؤيدون عمليات ترحيل جماعي للفلسطينيين (ترانسفير).
بالنظر إلى مثل هكذا نتائج يمكن فهم لماذا وصلت المفاوضات إلى طريق مسدود على المسار الفلسطيني- الإسرائيلي، ويمكن فهم خلفية تصريح نائبة وزير الخارجية الإسرائيلي، تسيبي حوتوفيلي (الليكود)، بأن عملية المفاوضات مع الفلسطينيين ليست مدرجة في جدول أعمال الحكومة الإسرائيلية في المرحلة الحالية. فحكومة نتنياهو ليست معنية بعملية سياسية مع الفلسطينيين، وربما أي حكومة إسرائيلية أخرى لن تكون معنية، فانقسامات كبيرة داخل المجتمع الإسرائيلي، تصل إلى مستوى تصدعات حادة، تحاول الكتل الحزبية الإسرائيلية، بمختلف ألوانها، الهروب منها نحو تعميق الصراع مع الفلسطينيين وتأجيج العنصرية ضدهم.
(المقالة تعبر عن رأي كاتبها)