خسارة تنظيم (داعش) في العديد من المعارك في ساحات القتال، ومراوحة بعض تلك المعارك بين كر وفر، لا تكفي لوضع تصور حول إمكانية حسم المعركة مع (داعش) والتنظيمات التي تسير في ركبه، حتى لو ألحقت به هزيمة عسكرية في العراق وسورية، فقد أثبت هذا التنظيم قدرة كبيرة على فتح بؤر جديدة، في ليبيا واليمن وسيناء، وبناء شبكة واسعة من الخلايا النائمة، يستطيع التحكم بها وتحريكها، في أوروبا الغربية وبلدان مجلس التعاون الخليجي وفي شمال أفريقيا وفي أفغانستان، وفي العديد من الدول الإسلامية، ولا تدخر قيادة (داعش) جهداً لمد خيوط إرهابها إلى بلدان أخرى.
ولذلك؛ إن تقييم قدرات وأداء (داعش) وأفعاله خلال الأعوام الثلاثة الماضية لا يجب أن يستند إلى حجم قوته العسكرية فقط، وخاصة في العراق وسورية حيث مركز ثقله العسكري والتنظيمي، بل إلى قدرته على تجنيد مقاتلين جدد في صفوفه، وتأمين مصادر دعم مالي، وتوسيع شبكة تأثيره على قطاعات من الرأي العام في البلدان العربية والإسلامية، والجاليات الإسلامية في البلدان الغربية، لاسيما القطاعات المتدينة وخاصة الفئات العمرية الشابة منها، من خلال تشويه تعاليم العقيدة الإسلامية، وبث أفكار تقوم على البغض والكراهية.
يستغل (داعش) موروثاً هائلاً من الانحرافات الفكرية للنيل من سمة الوسطية والاعتدال التي تمتاز بها العقيدة الإسلامية وتعاليمها، واستفادت الفئات التحريفية المتطرفة من لعبها دور أداة لقوى إقليمية ودولية، استخدمت في خمسينيات وستينيات القرن الماضي للتخريب على حركات التحرر العربية، وإجهاض التطلعات نحو مجتمعات حداثة وتنمية مستدامة، وتحقيق الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة بين أبناء الوطن الواحد، وإنهاء التبعية الكولونيالية للقوى الاستعمارية الإمبريالية الغربية، لوقف نهب الثروات الوطنية وتبديدها.
ووظف بعدها تنظيم (القاعدة) من قبل الولايات المتحدة الأميركية كأداة لها في أفغانستان، في ثمانينيات القرن الماضي، في خضم ما يسمى بـ"الحرب الباردة" ضد الاتحاد السوفييتي، لتدفع الولايات المتحدة في أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2011 ثمناً باهظاً على يد ربيبتها تنظيم (القاعدة)، كما وجّهت التنظيمات الإرهابية ضربات موجعة لدول الخليج العربي، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، لكن التنظيمات الإرهابية المتطرفة مازالت تتمتع بحواضن في البلدان التي تحاربها، لأن الحرب على (القاعدة) و(داعش) وأمثالهما لا تعمل كما ينبغي على تجفيف حواضنهما، المتمثلة في الفكر التكفيري المتطرف الذي يشوّه العقيدة الإسلامية.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن (القاعدة) و(داعش) لا يمثلان في شكل حصري الإرهاب والتطرف المستند لانحرافات فكرية، فهناك أيضاً تنظيمات متطرفة تلتقي مع هذين التنظيمين، وإن اختلفت التنظيرات والمرجعيات الطائفية والمذهبية، فالإرهاب لا دين ولا طائفة ولا مذهب له سوى التحريف والقتل والترويع، والمثال على ذلك العديد من الميليشيات الطائفية في العراق.
إندونيسيا البعيدة عن التأثيرات المباشرة لأنشطة (داعش) و(القاعدة) استشعرت الخطر، وانعكس ذلك بمبادرات مجتمعية تبين اعتدال المعتقدات الإسلامية، وتمسك المسلمين بعلاقات السلم وأواصر الأخوة بين شعوب العالم، ورفضهم لكل أشكال التطرف والإرهاب. المبادرة الإندونيسية يعمل فيها المئات من الناشطين في جمعية "نهضة العلماء" على نشر رسائل عبر الإنترنت، تدعو إلى إسلام متسامح في مواجهة دعاية تنظيم (داعش).
ووفقاً لتقرير من جاكرتا، لوكالة الأنباء الفرنسية، "تشارك الجمعية الناشطة في نشر الإسلام المتسامح على الساحة الدولية في المؤتمر الدولي الثاني للعلماء والمفكرين الإسلاميين في جاكرتا، الذي افتتح أمس الاثنين ويستمر حتى مساء اليوم الثلاثاء. ويستخدم نحو 500 من أعضاء الجمعية التي تمثل التيار الإسلامي التقليدي في إندونيسيا الهواتف الذكية والكمبيوترات المحمولة للتصدي لحملة الدعاية الإلكترونية لتنظيم "داعش" لتجنيد مقاتلين من مختلف أنحاء العالم…".
الهدف من وراء الحملة عبّرت عنها تغريدتان على "تويتر"، التغريدة الأولى كتبها سيف علي المسؤول في جمعية "نهضة العلماء وقال فيها: "لن ندع الإسلام رهينة لمعتوهين تملأ البغضاء قلوبهم". والثانية كتبها مسؤول قسم الشباب في الجمعية ياقوت كوماس، وشرح فيها بكلمات بسيطة ومختصرة نظرة الإسلام والمسلمين للعالم بالقول: "الإسلام بالنسبة لنا يعني بكل بساطة المساهمة في بناء الحضارة القائمة وليس في تغييرها".
تجربة تستحق التوقف عندها والتعلم منها، فإندونيسيا هي أكبر البلدان الإسلامية، تضم 225 مليون مسلم، وخيضت فيها على امتداد السنوات الماضية العديد من المعارك بين المتنورين والمتطرفين، انتصر فيها المتنورون، لكن ذلك لم يمنع من ظهور تنظيمات وجماعات متطرفة مرة أخرى، لأنه لم تبذل جهود موحدة من كل الدول الإسلامية لتجفيف منابع التطرف والإرهاب والتكفير، ليس بحلول أمنية وعسكرية، بل بإشاعة الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وإنقاذ الشباب من مظاهر الحرمان والجهل والبطالة، التي تشكل بيئة خصبة لـ(داعش) و(القاعدة) وأمثالهما من التنظيمات الإرهابية المتطرفة.
(المقالة تعبر عن رأي كاتبها)