اختارت بريطانيا الخروج من الاتحاد الأوروبي، بأغلبية 51.9%، من المشاركين في الاستفتاء يوم الخميس الماضي، نتيجة اعتبرها المؤيدون للخروج انتصاراً لهم، وطالبوا بجعل يوم 23/6 يوماً لـ"استقلال بريطانيا"، وفي الجهة المقابلة رأى المعارضون للخروج بأن النتيجة ستضر بالمصالح البريطانية العليا.
بدورها انقسمت ردود الفعل الأوروبية ما بين إبداء مشاعر الحزن والأسف، واعتبار ما حصل "يوما مشؤوما لأوروبا"، على حد وصف نائب المستشارة الألمانية، زيغمار غابرييل، في تغريدة على "تويتر"، وبين فتح شهية الأحزاب اليمينية المتطرفة، في العديد من البلدان الأوروبية، لإجراء استفتاءات على غرار الاستفتاء البريطاني، واعتبار نتيجة هذا الاستفتاء انتصاراً للروح الوطنية لدى الشعوب الأوروبية الغربية الرافضة للاتحاد الأوروبي وقوانينه، وفق ما يراه أولئك.
حاول المؤيدون للخروج إعطاء انطباع بأن بريطانيا لن تخسر شيئاً جراء طلاقها مع الاتحاد الأوروبي، بل ستربح اقتصادياً وسياسياً وأمنياً، بتخلصها من الالتزامات الثقيلة التي تفرضها قوانين الاتحاد الأوروبي على الدول الأعضاء فيه، ادعاء يفنّده المعارضون بالتشديد على أن بريطانيا تستفيد من عضويتها في الاتحاد، وتعطيها العضوية ثقلاً اقتصادياً وسياسياً في الفضاء الأوروبي، سيتراجع كثيراً بخروجها من الاتحاد.. جدال كان محتدماً قبل أن تدق ساعة الحقيقة بظهور نتيجة الاستفتاء، والآن على الحكومة البريطانية والبريطانيين مواجهة الوضع الناشئ وإعادة ترتيب أوضاعهم خارج الاتحاد الأوروبي.
إلا أن الخطة لم تكن كافية من وجهة النظر الرسمية البريطانية، كما تجلى ذلك في قمة بروكسل، 18 شباط /فبراير 2016، حيث ظهرت الكثير من الخلافات بين رئيس الوزراء البريطاني وقادة الدول الأخرى في الاتحاد، ودارت نقاشات مطولة وشائكة حول الشروط الأربعة التي وضعها كاميرون للالتزام بإدارة حملة لبقاء بريطانيا في الاتحاد، وشملت الشروط أربعة مجالات رئيسية هي: التنافسية والسيادة والرعاية الاجتماعية والحكامة الاقتصادية، والمقصود بـ"الحكامة" أسلوب ممارسة السلطة في تدبير الموارد الاقتصادية والاجتماعية للبلاد من أجل التنمية. وبالطبع كانت الاقتراحات الأوروبية بعيدة جداً عن تغيير مواقف البريطانيين المؤيدين لخروج بريطانيا من التكتل الأوروبي.
مما لاشك فيه، إن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيجر نتائج سياسية واقتصادية كارثية على الاتحاد. دورية "ستراتفور" للتحليل المعلوماتي، التي تصدر عن شركة أمريكية خاصة مقرها هيوستن في تكساس تم تأسيسها عام 1996، نشرت تقريراً مفصلاً عن تأثير احتمال خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والسوق الأوروبية المشتركة، وحدد التقرير مخاطر خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بأربع نقاط رئيسية: غموض سياسي، مخاطر اقتصادية، مخاطر مالية، زيادة الشكوك الداخلية الأوروبية إزاء الاتحاد. كما ستكون لها تأثيرات سلبية على الاقتصاد العالمي.
أراد رئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون، التودد إلى الناخبين المحافظين والناخبين المناهضين للاتحاد الأوروبي خلال الانتخابات الأخيرة، بوعود عقد استفتاء على عضوية بلاده في الاتحاد بحلول نهاية عام 2017، وابتزاز الأوروبيين والضغط عليهم، في مقامرة ستكلفه مستقبله السياسي، وستكون لها عواقب هائلة على طبيعة الدولة البريطانية، وهو ما أكد عليه الحزب "الجمهوري" الايرلندي في بيان صادر عنه، ويجب التعامل مع هذا التحذير بجدية على ضوء قراءة اتجاهات التصويت في إيرلندا الشمالية وويلز واسكتلندا، حيث صوتت أغلبية كبيرة لصالح البقاء في الاتحاد، وكان لافتاً تصريح رئيسة وزراء اسكتلندا نيكولا ستارغن، أن "اسكتلندا ترى مستقبلها داخل الاتحاد الأوروبي".
الاتحاد الأوروبي لن يكون مثلما كان قبل 23/6/2016، وربما لن تكون بريطانيا أيضاً على ما كانت عليه قبل هذا اليوم، فالاختلاف الحاد في توجهات الناخبين قد يدفع الحكومة الاسكتلندية لتنظيم استفتاء جديد حول الاستقلال عن المملكة المتحدة، وفرص خروج اسكتلندا كبيرة هذه المرة. كما أن تعارض رغبة الأغلبية البسيطة من البريطانيين، المؤيدين للخروج من الاتحاد الأوروبي، مع الأغلبية الكبيرة من الايرلنديين، المعارضين للخروج من الاتحاد، سيضع على الطاولة مجدداً مطلب إجراء استفتاء حول إيرلندا موحدة.. وفي المحصلة خسر الاتحاد الأوروبي لكن بريطانيا لن تربح في المدى المنظور.
(المقالة تعبر عن رأي كاتبها)