وقبل أن نبدأ ببعض التفاصيل التي تشرح إلى حد ما هذه السلوكيات الدبلوماسية والسياسية الجديدة للطرفين الروسي والأمريكي، يمكننا القول وبشكل واضح تماماً، أن نتائج هذه اللقاءات لم تكن لتحتاج إلى الكثير من التفكير والتمحيص والتخمين، حتى نصل إلى نتائج واضحة مفادها أن الاجتماعات كانت ذات صبغة عسكرية بحتة تخص الاستراتيجية الموحدة لمواجهة الخطر الأكبر الذي بات يشكله الإرهاب على الوضع العالمي بشكله العام وليس فقط على منطقة الشرق الأوسط وفي سورية بالتحديد، نحن نلاحظ أنه وبعد فترة قصيرة من هذه اللقاءات تحركت روسيا عسكرياً بشكل غير مسبوق وبدأت بعملية عسكرية واسعة النطاق واستخدمت تقنيات وأسلحة جديدة وطائرات استراتيجية بعيدة المدى وقاعدة حميميم الروسية العسكرية لم تعمل بهذا الزخم منذ أن بدأت روسيا بتقديم الدعم الجوي للجيش السوري.
وضربت في مناطق كان من المفترض أن الولايات المتحدة لن تسكت عن التعرض لها، والأكثر من ذلك هو الهدوء الإعلامي والسياسي الغربي والخليجي عن ضرب "جبهة النصرة" وملحقاتها، بما فيه موقف الولايات المتحدة الأمريكية شبه الصامت تجاه هذه الخطوات القوية من قبل روسيا، خاصة عمليات روسيا ضد ماتسميه بالمعارضة المعتدلة التي فضحت نفسها وسيدها الأمريكي، وأحرجت الولايات المتحدة الأمريكية إحراجاً دولياً كبيراً، عندما عرضت إحدى مجموعاتها المسلحة فيديو تعرض فيه عملية ذبح شنيعة للطفل عبد الله عيسى البالغ من العمر 12 عاماً، واستدعى الأمر أن تحاول الولايات المتحدة التنصل من هذه المجموعات وتهددها بضمها إلى لائحة الإرهابيين، هذا من جانب، ومن جانب آخر الأوضاع التي هزت تركيا وأجبرتها على الإنشغال في ترتيب بيتها الداخلي بعد محاولة الانقلاب الأخيرة على نظام حكم الرئيس أردوغان.
وإذا ما تابعنا تصريحات المرشح الرئاسي الأمريكي ترامب الذي أكد أن الأولوية هي لمكافحة الإهاب وليس لإسقاط الأسد، ووجه اتهامات مباشرة إلى الإدارة الأمريكية وإلى وزيرة الخارجية السابقة والمرشحة الحالية للرئاسة الأمريكية هيلاري كلينتون لجهة تشكيل تنظيم "داعش" الإرهابي والتسبب بشكل مباشر في تكوينه ودعمه ما شكل خطراً كبيراً على الاستقرار والأمن العالميين…هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، نرى أن هناك تصريحات روسية أمريكية واضحة تتحدث عن العزم على عقد اجتماع ثلاثي رفيع المستوى في جنيف يضم روسيا والولايات المتحدة وينضم إليهما المبعوث الأممي الخاص إلى سورية ستيفان دي مستورا، وآخر لم يفصح عن تفاصيله سوى أنه على مستوى عال لمناقشة وبحث سبل إعادة إحياء محادثات جنيف.
ومن جهة ثالثة أيضاً جاءت إرشارات من الدولة السورية التي اعتبر بعض الخبراء أنها متوجسة من سرية اللقاءات الروسية الأمريكية لتعرب عن استعداد الحكومة السورية لمتابعة محادثات جنيف، وعلى المنقلب الآخر حثت المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، المجتمع الدولي على السير في هذا الاتجاه في ظل هذا التأزم، وطلبت إلى الولايات المتحدة العمل بجدية لمكافحة الإرهاب والسعي لدفع عملية الحل السياسي، لابل وذهبت أبعد من ذلك عندما تحدثت عن أهمية إطلاق الحوار السوري السوري الداخلي الشامل وتحت إشراف المبعوث الأممي ستيفان دي مستورا، ودون شروط مسبقة ودون إي إنذارات من قبل هذا الطرف أو ذاك لا تخدم مصلحة إطلاق عملية الحل السياسي.
إذا، بات الأمر على المكشوف، والولايات المتحدة إن لم نقل أذعنت أمام هذه التطورات والتحديات التي تذهب بشكل واضح في عكس تيارها وهي على أبواب الانتخابات الرئاسية في ظل عجز جميع حلفائها في المنطقة وأذرعتهم الإرهابية عن تقديم أي مكسب سياسي أو ميداني يعطيها قوة النزال مع الطرف الروسي، ولابد هنا أن نفهم الاستدارات التركية الكبيرة التي تحدث مؤخراً، بغض النظر عن الأحداث الداخلية وكيفية التعامل معها، أردوغان بدأ بالعد العكسي للدوران إلى الخلف والعودة إلى المجال الذي أراد التخلي عنه طمعاً بدخول الاتحاد الأوروبي الذي أغلقت جميع أبوابه أمام تركيا بفضل عدم قدرة أردوغان على فهم مجريات الأحداث، ولم يحسب فيها خط الرجعة، ومن هنا نقول أن هناك عملية ما تدعم إعادة تموضع تركيا في المنطقة في اتجاه دفع شبكة علاقات إقليمية ودولية جديدة مقابل التخلي عن دعم الإرهاب والسياسة المستفزة التي اتبعتها سابقا.
ويبقى الأمر الآن مرهون بالاتفاق على تصفية المجموعات الإرهابية المسلحة وتعرية المعتدلة منها كما يسمونها، كي تعطى الفرصة للدخول في خضم العملية السياسية، والرهان الأكبر هنا على قدرة روسيا والولايات المتحدة في إيجاد صيغة واضحة لمواجهة الإرهاب وفتح الطريق أمام القوى السياسية السورية بكافة أطيافها للسير باتجاه التوافق الذي يخدم سير العملية السياسية وإنقاذها من الإنهيار الذي لا يمكن أن يتنبىء أحد بعواقب فشلها في ظل المخاطر الحالية
يتضح من كل هذه التطورات أن انقلاباً ما سيحدث وعلى الأرجح هو في صالح الصوت السوري بشقيه الرسمي والوطني المعارض يسندهما موقف روسي لم ولن يتغير، من شأنه أن يغير معالم أزمة الشرق الأوسط برمتها.
(المقالة تعبر عن رأي كاتبها)