البلدتان المنسيتان
تبدو كفريا والفوعة المحاصرتان في ريف إدلب الشمالي بلدتين منسيتين، لا يستحضر ذكرهما إلا مشفوعاً بحملات إعلامية تشنها المعارضة السورية المسلحة التي تصر على التصويب عليهما باعتبارهما "قاعدتين عسكريتين للجيش السوري ومن لف لفه من الشبيحة"، كما يحلو لهم الوصف، متجاهلين وجود آلاف المدنيين هناك من نساء وأطفال وعجز…تجربتهم المريرة مع التكفيريين الذين لا يرعون ذمة لأسير ويتباهون بانتهاك أعراض النساء وذبح الأطفال جعلت من صمود البلدتين الأسطوري خياراً واحداً لا يختلف تجاهه عاقلان…تستحضر كفريا والفوعة كذلك عبر قوافل المساعدات القليلة الداخلة إليهما عن طريق الأمم المتحدة بالتوازي مع دخولها لمناطق آخرى تحت سيطرة المعارضة المسلحة كمضايا والزبداني…مناطق سخرت لأجل إدانة الحكومة السورية عبرها ومن خلالها حملات إعلامية ضخمة انتهكت أبسط مقومات المصداقية عبر استحضار صور إنسانية وقعت في مناطق ساخنة كثيرة في العالم.
أطفال يناشدون المجتمع الدولي للتدخل
لكن أهالي كفريا والفوعة عرفوا كيف يكسرون جدران النسيان والتجاهل من خلال الرسائل الصوتية القادمة من هناك عبر الوسائل الإعلامية ومنها لـ"سبوتنيك"، التي أطلت من خلالها الطفلة لجين" ذات السنوات الأربع وهي تبكي أختها الرضيعة "ريبال" التي لم تبلغ ربيعها الثاني…قاسية هي الأقدار على لجين…لم يقسط لها أحد الألم…لم يخبرها بأن ريبال ذهبت إلى البعيد الجميل، وستعود يوما في هيئة ملاك…رسالة الهلاك وصلتها دون مقدمات، فأشلاء ريبال المتناثرة أمامها بعدما سقطت في البيت قذيفة مصدرها المجموعات المسلحة في بنش كانت التعبير الأكثر دموية عن الحقيقة الصادمة، وسخاء الفجيعة كان أكبر من قدرتها على احتواء التجربة، وأقسى من أن يحتمله قلبها الغض، فتحولت في لحظات خاطفة من طفلة حالمة إلى نائحة تحترف البكاء والعويل…فيما كان صدى المكان يردد بتقطع صوتها المخنوق وهي تنادي…يا ري…ب…..ا….ل
بتول" طفلة أخرى غلبها الدمع وهي توصف حالها وحال بقية الأطفال في الأقبية التي اتخذها الأهالي ملجأ لهم من القذائف المتساقطة بغزارة على البيوت…شاهدت بأم عينها كيف مات أطفال رضّع" نتيجة سوء التغذية، وكيف قُنّص آخرون خاطروا في الخروج من الأقبية سعياً وراء رزق ضنك أو دواء بات الحصول عليه ضرباً من المستحيل…بتول ناشدت الأمم المتحدة كي تتدخل لفك الحصار، كما ناشدت الجيش السوري و"حزب الله" كي يفعلا ذلك…لكنها بدت على حافة الانهيار حين وجهت كلمات حزينة فيها الكثير من عتب المحب للسيد حسن نصر الله بقولها — بيهون عليك فيي يا سيد حسن…قبل أن تستغرقها الدموع
حرام علينا الطعام من دونكم
سبوتنيك" توجهت إلى فندق طاس في السيدة زينب، حيث استقر هناك عدد من عائلات كفريا والفوعة المتحررين من سجن الحصار هناك نتيجة تسوية تمت نهاية العام الماضي وقضت بخروج" مصابين من رجال ونساء مع أفراد عائلاتهم دون سن الثامنة عشرة، مقابل عدد مماثل من الأهالي في بلدات الزبداني ومضايا…التسوية هذه ورغم كونها قد ساهمت في التخفيف كثيراً على المحررين الذين عانوا الجوع والمرض والخوف والموت في كفريا والفوعة، إلا أنها خلقت مشكلات متعلقة بمفارقة الأب لأبيه والأم لابنها والأخ لأخيه وما يترتب على ذلك من الهموم التي تورثها سطوة الذكرى وألم البعاد…تبكي "حوراء" دونما سبب معلوم، نحاول تهدئتها مع والدتها السيدة إيمان رحال، التي تطلب من ابنها الصغير حيدرة التخفيف عن أخته…محاولة الطفل تبوء بالفشل، بدت حوراء غائبة عن المشهد في تلك الغرفة الصغيرة من الفندق والتي أعطتها الدولة السورية كبيت مؤقت للمهجرين من عائلات كفريا والفوعة…تضم السيدة إيمان طفليها وتجهش هي الأخرى بالبكاء قبل أن تخبرنا بصوت متهدج بأن حوراء تبكي كلما ذكرت والدها الذي بقي في الفوعة ولم تسمح له التسوية بالخروج مع طفليه وزوجته التي أصيبت في الرأس بطلقة قناص وهي تحضر مجلس عزاء لأحد الشهداء في الفوعة…فقدت على أثرها إحدى عينيها وأصيبت بعجز نصفي أقعدها عن ممارسة حياتها الطبيعية…لكن إيمان تتماسك من جديد وتخبرنا بأنها وأولادها وبقية العائلات لا يزالون يعيشون عقدة كفريا والفوعة. فكل شيء يقود إلى التفكير بالمحاصرين هناك، وكل اتصال معهم يشي بأن الأمور تزداد صعوبة وتعقيداً، مع نجاح المجموعات المسلحة في استهداف أو إعطاب المؤونة التي يلقيها سلاح الجو السوري على البلدتين المحاصرتين…لم تعد الأمور كما كانت في السابق ــ تقول إيمان، فمع سيطرة المسلحين على إدلب وجسر الشغور نضبت طرق كسر الحصار، ولم يبق من سبيل سوى الجو وما ينطوي عليه من مخاطر على الطيارين أنفسهم أو على المؤونة التي لا تصل سليمة في أغلب الأحيان…فضلا عن وجود رأي عام تقوده وسائل إعلام عربية منحازة إلى بلدات يسيطر عليها المسلحون، ولا تأت على ذكر كفريا والفوعة إلا من باب التجييش المذهبي والسياسي…دموع حوراء أعادت الحديث إلى سياقه ،الإنساني، فالطفلة على ما تقول أمها لا تأكل إلا ما يبقيها على قيد الذاكرة، فهي تنأى بنفسها عن أطايب الطعام كلما تذكرت والدها ورفاقها هناك من الأطفال…ثمة شعور لديها بالذنب تجاههم وربما الخيانة إذا تناولت من الطعام والحلوى ما يحلمون بجزء يسير منه…لا تريد السيدة إيمان من ابنتها أن تغادر طفولتها باكراً لأي سبب مهما كان نبيلاً، ولهذا فإنها تنكر على ابنتها هذا التصرف حتى لو بدا مفهوما…حيدرة يشارك أخته القناعة نفسها، لكنه يبدو أقل تصميما منها على معاقبة نفسه، فسنوات الجوع الطويلة في الفوعة جعلته أكثر انصياعا لشهواته المكبوتة من الطعام والحلوى والفاكهة.
انتقلنا إلى غرف أخرى من الفندق، حيث تسكن عائلات من كفريا والفوعة، عاشت ولا تزال المصير ذاته في الأسر والحرية…مريم ابنة العاشرة تحدثت عن العيد الذي مضى والذي كان بمثابة الكابوس…تقول مريم لـ "سبوتنيك": لم يعايدني أحد ولم أعايد أحدا كذلك…قبل أن يعلو صوتها بالبكاء وهي تذكر مصير بيت خالها الذي حاول أن يخلق شيئا من بهجة العيد لأبنائه، فكان أن رصدته إحدى طائرات الاستطلاع التابعة للمسلحين…فقصف البيت وتوفيت زوجة خالي الذي لحق بها بعد يومين.
ليس باليد حيلة
لقد مللنا من المناشدة ــ تقول مريم، والأخبار هناك تتحدث عن انتشار أمراض الكبد والجفاف والسرطان…ونحن لا حول لنا ولا قوة، وكلما اتصلنا بأقاربنا هناك يتوسل أطفالهم إلينا أن نرسل لهم عبر الطائرة بعضا من أكياس الشيبس أو البسكويت أو العلكة، ونحن نجيبهم بالوعد الذي نعلم سلفا أننا لا نقدر على الوفاء به…حديث مريم دعمته أصوات آخرى علت، وقد أيقظ وجود وسيلة إعلامية عليها المواجع، فانهالت التعليقات الحزينة والغاضبة من كل حدب وصوب تشكو تهميش وسائل الإعلام لمأساة كفريا والفوعة التي وصل الوضع الإنساني والمعيشي فيها إلى مستويات غير مسبوقة من الانحدار، كما أجمع الحضور الذين تحدثوا عن وجود تجار أزمة هناك يبيعون للناس بأسعار فاحشة، رغم أن أحدا منهم لا يضمن أن تقصم حياته قذيفة ترى في كل من يدب على الأرض في كفريا والفوعة هدفا مباحاً.
طالب يوسف" كردي مقاتل فقد إحدى رجليه وهو على الخط الأول يدافع عن الفوعة، يتباهى الرجل بمقطع مسرب له على اليوتيوب وهو يحمل رجله المهشمة ويستمر في القتال…طالب قال لـ" "سبوتنيك": إن أردتم معاينة ما يجري هناك مباشرة فاصغوا إلى هاتفي…اتصل طالب بأبي عبدو…صديقه المحاصر في كفريا والفوعة وسأله عن الحال عنده…استفاض هذا الأخير في الحديث عن معاناة أطفاله وشكواهم من انعدام الطعام إلا بقايا من الرز المطحون والبرغل دون وجود أية سمنة أو زيت لطبخه…تحدث أبو عبدو عن الكارثة الجديدة المتعلقة بفقدان المياه بعدما قام المسلحون بتدمير خزان المياه الرئيسي هناك واضطرار الأهالي إلى استخدام المياه الباطنية غير المعقمة على قلتها وما ترتب على ذلك من الارتفاع الجنوني في الأسعار…بدأ أبو عبدو يائسا من كل شيء ونال بسخطه الجميع وعندما علم بوجودنا توعد بالكف عن الحديث إن لم تصل شكواه كاملة…قبل أن يختم بدعوة الطيران السوري والروسي لقصف كفريا والفوعة قبل أن يتمكن مَن نعتهم- بالتكفيريين — من الدخول إليهما.
لعنة الإرهاب لا تزال تطاردنا
عندما غادرنا فندق طاس في منطقة السيدة زينب، حيث يتجمع مهجرو كفريا والفوعة…ظهرت بوضوح آثار الدمار على الجانب المطل منه على حاجز الديابية الذي شهد قيام انتحاريين بتفجير نفسيهما هناك…الأمر الذي أدى إلى إصابة عدد من مهجري كفريا والفوعة…ما جعلهم يتبسمون لنا بالكثير من المرارة وهم يهتفون بصوت أسيف…أرأيتم…لعنة الإرهاب لا تزال تلاحقنا حتى هذا المكان.