تحرص أم أحمد من سكان بغداد، على أن تبقي ثمرة "البامية" التي تختارها بعناية "تازة وصغيرة" تحتفظ بها في البراد "المجمدة"، تحت سلة الخبز، كأنها كنز ترتقب به معدة أحمد، لتطبخها له "مرقة" هي المفضلة عنده بين أصناف الأكلات العراقية، عندما يأتي باستراحة إلى البيت بعد أيام من التواجد في ساحة المعركة.
أنظار الأم، وزوجها وأبنائها، كلهم صوب هواتفهم النقالة، بانتظار أن تضيئ بخبر من أحمد، وترتل الأم أدعية ترجو الله أن يكون أبنها هو المتصل وبحال جيد، لا غير، ويأتي صوته وحواره معها الذي نقلته لمراسلة "سبوتنيك" في العراق..
أني بخير لا تهتمون، الوضع في الموصل جيد، ونحن متقدمون في القتال.."داعش"، منهار تماماً وبدأ يسحب عناصره إلى مركز المدينة، ونحاصرهم لا مفر لهم، تسمع صوت الطيران من يقصف..أسمع يابه.. ويترك الهاتف للسماء..
وبحركة لا إرادية يد أمه معلقة بالهواء قرب أذن زوجها لدقائق حتى ينهي حديثة مع أحمد، لتأخذ الهاتف منه براحة ترتجف "الذي تشكر اليابان على صنعه مثل كل أم عراقية بسيطة"، وتسأله:
أبني، متى تأتي؟ إن شاء الله عن قريب؟ هل أنت بردان؟ وماذا تأكل، أنت جائع؟
يخبرها، أنه بخير، والبرد قارص حوله لكنه بصحة جيدة ويأكل جيداً، ويستفسر منها عن أحوالها وأخوته.
وعندما يفاجئهم أحمد..تعرفه أمه من "فتحة الباب" تهرع بعد عناقه وتقبيله وشم رائحته الممزوجة بتراب نينوى الحرة، إلى كنزها لتطبخ له "البامية" وتلف له "الدولمة" الأكلة العراقية الشهيرة، وتغفو الليالي بعد أيام من مفارقتها للنوم سهرا ً على فراق أبنها واشتياقها له وخوفها عليه، ويقضي الأيام يحدثها وعائلته عن انتصارات القوات وشجاعات الجنود والضباط والقادة العسكريين في استعادة المناطق الواحدة تلو الأخرى من سيطرة تنظيم "داعش" الإرهابي في أخر أوكاره..الموصل.
مشاعر أخرى..
أعد الأيام..ثانية ثانية، لعودة زوجي إلى البيت..بيتنا الصغير الذي كبر فيه طفلينا بعيداً عن زوجي الضابط في الجيش العراقي..حتى عندما شقت الأسنان لثة طفلتنا وبرز أول لؤلؤين صغيرين في أسفل فمها الصغير، كان أبوها في ساحة قتال لمواجهة تنظيم "داعش" والقضاء عليه في غرب العراق.
وعندما قالت طفلتنا، "بابا" رغم تعلقها بي، كان بعيداً أيضا ً، تحفظ صورته وصوته الذي يملئ البيت به في أيام سبعة "إجازة" يقضيها معنا قبل أن يعود إلى موقعه العسكري قرب الفلوجة، بمحافظة الأنبار غرب العراق.
عندما أمسك هاتفي "اللزج أحياناً من لعاب "دجلة" أبنتي التي تدعك به لثتها وتلهو به لما تُريد اللعب، في أوج حزني وصبري وترقبي"، للاتصال بزوجي، أشعر وكأن كل شيء أظلم وروحي تقبض بيدي، عندما ينساب صوت الأنثى "المُجيبة الآلية": عذراً الهاتف المطلوب مغلق أو خارج نطاق التغطية حاول الاتصال في وقت لاحق"، وقتها كل الأفكار السلبية والمرعبة تصير بعقلي.
وتصف الزوجة "أم أكرم" (28 عاماً) في حديث لمراسلة "سبوتنيك"، أحوالها عند توجه زوجها للقتال ضد تنظيم "داعش" واقتلاعه من باقي المدن العراقية وتحرير الإنسان قبل الأرض من بطشه ووحشيته، في شمال وغرب البلاد.
"أنا فخورة به، كثيرا ً، لكن هذا لا يعني أنني لا أعيش أيامي بهلع ورعب يومي، خوفا ً من أن يأتيني خبر سيء عنه، بسبب تواجده وانتقاله من منطقة ساخنة إلى أخرى أشد خطورة".
منذ الشهر الأول، بعد زواجنا، عام 2013، وقبل أن يتكون جنين طفلنا الأول "أكرم"، ألتحق زوجي "سعد" للعسكرية.."تعرفت عليه بزواج تقليدي بوساطة جارتنا زوجه أخيه"، ومن يومها أنا لا أنام مثل البشر، أو أكل جيداً، "بالي كله عند زوجي".
عندما حصل هجوم لتنظيم "داعش" على المنطقة التي يتواجد بها زوجي، قرب الفلوجة، في وقت سابق، اتصلت به ولم أحصل على رد منه أبدا ً، فكل محاولاتي للتغلب على شبكة الاتصال المفقودة عنده لم تنفع، حتى توسطت عند إحدى قريباتي زوجها قائد كبير بالجيش استطاع أن يؤمن اتصالا بزوجي وأخبرني أنه بخير، وفي اليوم الثاني حصلت على اتصال به..
آلو "ببكاء شديد ودموعي تنزل عشرة، عشرة"، أين أنت؟ والله مت عليك من الخوف، الله عليك، بك شيء ؟
ماذا بك ِ "مع ضحكة صغيرة ليطيب قلبها"..لا تخافي قتلنا كل الدواعش، وأنا أتي لبابل، بعد غد عندما يفتح الطريق، أكرم ودجلة هل هم بخير؟
بخير، طمئنا عليك، يومياً، أمك تبعث لك سلاماً وبالها عندك، جالسة قرب باب البيت بانتظارك، والأطفال بخير لا تأكل همهم.
الله يسلمكِ ويسلمها، لا تخافوا، قبلاتي لكرم ودجلة.
ومن جهة أخرى.. لأم أكرم، شقيقها المقاتل في الحشد الشعبي، لا تقل مخاوفها وأهلها عليه بشكل يومي حتى يعود سالماً من محافظة صلاح الدين شمالي بغداد، وتشير إلى مشاركته في معارك حقق بها بطولات في دحر تنظيم "داعش" الإرهابي وطرده من مدن المحافظة، رغم تلقيه راتب بسيط منقطع، ويأخذ المال من أمه لشراء ذخيرة لسلاحه.
عاد بعد موته..
وروى "عبد الرحمن"، لمراسلتنا، حال أهله، في حي التأميم غربي الرمادي مركز الأنبار المحافظة الخاصرة الغربية للعراق، عند تلقيهم خبر مقتل شقيقه "قحطان" في هجوم لتنظيم "داعش" على قضاء الرطبة الحدودي مع الجار الأردن في وقت سابق، من خلال صديق له أكد لهم ذلك.
ولما سمعت أمي خبر مقتل أخي، قطفت شعر رأسها كله وهي جالسة على الأرض وساقاها ممدودتان أمامها نثرت على جانبيهما شعرها المخلوط بين الشيب "الأبيض"، والبني الفاتح عن مسحوق عشبة "الحنة" التي تطلي بها شيبها بين حين وأخر كي لا تبدو أنها كبرت لتعيش معنا أطول مدة ممكنة.
وقضت أمي الليل كله تبكي وتصرخ تطالب بجثته والانتقام من الدواعش الذين هاجموه عند تصديه لهم في الرطبة العام الماضي.. حتى أن صديقه الذي نقل مقتله لنا نشر صورته التي كم كنت أضحك عليها وأمازحه على وقفته وتسريحة شعره، عبر الفيسبوك مع رثاء وطلب للرحمة له.
ولما تجمع أبناء عمومتي وأبي وأخوتي، تسلحنا جميعا ً وجهزنا سيارتنا البي كب، لإحضار جثته من فكي سيطرة تنظيم "داعش" على مناطق من الرطبة (110 كم غرب الرمادي) في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، مهما كلفنا الأمر.
ومع أول شعاع تسكبه الشمس على حينا التأميم، وإذا بهاتفي يرن..قحطان يتصل بك.. معجزة كانت أخي المقاتل في حشد عشائر الأنبار، يعود بعد موته.. أخبرني أنه مع الجيش في منطقة أمنة قرب الرطبة، ويستعدون لهجوم مباغت لاستعادة المناطق التي اخترقها عناصر التنظيم الإرهابي في القضاء.
وتحول البكاء إلى "هلاهل"، في بيت أهل قحطان الذي بعودته سالما ً حل الفرح بكل الشارع والمنطقة، وتقربه أخباره يوميا ً أصبح جزء من أفراد العائلة يسأل عليه كل لحظة وهو يتنقل بين السواتر في صد هجمات الدواعش الذين يتسللون من صحاري الأنبار في محاولات فاشلة لخرق الأمن وتعويض خسائرهم التي تتساقط فوق رؤوسهم أكثر وأكثر شمال وغرب العراق.