يستقبلني "حمه"، أحد أبناء صاحب المقهى، والذي يقدم الطلبات للزبائن، ويحمل ابتسامة للجميع، فهو يعرفهم فردًا فردًا، ويحمل لكل منهم ذكريات زيارتهم الأولى لـ"العنبة".
حينما دخلت المقهى أول مرة، منذ عدة سنوات، كنت أعرف بعض المفردات التونسية، من كثرة زياراتي للخضراء، ولكني اكتشفت داخل مقهى "العنبة"، مفردات جديدة، فهي ملتقى الشباب، وفيها تبدأ الأفكار الأولى لمشاريع فنية عديدة، مرتبطة جميعها بتراث المدينة القديمة، التي يقع بين جنباتها مقهى العنبة الشهير.
تخرج من تونس الكولنيالية، حيث المباني الفرنسية الطابع، لتدخل المدينة العتيقة، أو كما يسمونها "المدينة العربي"، من ناحية باب البحر، وتسير في الأسواق حتى تصل لجامع الزيتونة، وعلى اليسار تجد صناع الذهب، حيث سوق البركة، ومنه تصعد إلى اليسار خلف المدرسة السليمانية، حتى تجد مقهى العنبة، أقدم مقهى في أفريقيا، فهو مبني من تاريخ حكم دولة الحفصيين لتونس، في عام 1228 ميلادية، وقارب عمره على 8 قرون.
المقهى كان يرتاده طلاب جامع الزيتونة والمدرسة السليمانية، والحرفيين و"الصياغ"، العاملين في محلات المدينة القديمة، وبحكم قربه من مقر الحكومة التونسية في "القصبة"، أصبح ملتقى لموظفيها، ومؤخرًا زاحمهم فيها طلاب الجامعة، وشباب الفنانين.
في "العنبة" يجب أن تتقبل الزحام، وصوت الشباب، وتجد من يتداخل معك في الحديث، فهو ليس مثل المقاهي العادية التي تفتح المجال لاستخدام التليفون والإنترنت، وينغلق كل شخص على عالمه الافتراضي الخاص، ويفقد التواصل مع رفاقه، لكنك في "العنبة" تبتعد عن كل ما هو افتراضي وتظل في تواصل مستمر مع الآخر.
يقول "لطفي"، ابن صاحب العنبة، والذي يصنع مشروباتها، "لا يأتي لذلك المقهى سوى صاحب القلب النقي، فمن يقبل أن يجلس مع الجميع ويتحاور مع الجميع، يجب أن يكون كذلك، تجد كاتب الدولة يجلس بجانب الحرفي الفقير جدًا، وتجد أحد أفراد القضاء بجانب شباب الجامعة، على مقعد واحد".
المهندسة المعمارية خنساء بوعزيز تقول عن مقهى "العنبة"، "لا يمشي لها إلا من يعرف قيمتها، فهي مكان لها رواد من طبيعة خاصة، ومن كثرة ترددهم عليها، روادها أصبحوا أصدقاء، من ناحية أخرى حافظت على الطراز القديم، وفي الخدمات المقدمة فيها، تحافظ على الشكل التونسي، والعاملين دائما يقدمون المشروب مع ضحكة، وتستطيع أن تجلس في "العنبة" حتى وإن لم تطلب شيء، بخلاف كل المقاهي التونسية.
في العنبة مشروبات تونسية معتادة، كالقهوة والشاي الأخضر بالنعناع، وعصائر البرتقال والليمون، وتجد أيضا مشروبات من المشرق، كمنقوع "الخروب"، وعصير "الكيوي"، والشيشة الجيدة التي يتميز بها العنبة عن باقي مقاهي المدينة القديمة بتونس.