نتابع اليوم ملف هام جداً يلقي بظلاله على الإستقرار في العالم من عدمه ، ألا وهو ملف العلاقات الروسية الأمريكية التي وصلت مؤخراً بسبب قضايا الشرق الأوسط ، وعلى وجه الخصوص القضية السورية، التي تبين مؤخراً أنها ليست أبداً قضية حرية أو ديمقراطية لابد من أن يحصل عليها الشعب السوري ، وإنما بالفعل هي قضية مصالح جيوإستراتيجية وإقتصادية دأبت بالدرجة الأولى الولايات المتحدة أن تحققها لضمان مصالحها من جهة ، ومن جهة أخرى لتضييق الخناق على روسيا. وهذا الإعتراف جاء على لسان عضو اللجنة العليا بالحزب الجمهوري الأمريكي، هاشم كريّم في إطار الرد على تصريحات المتحدث باسم البيت الأبيض، شون سبايسر بخصوص قبول الولايات المتحدة بواقع حكم الرئيس الأسد وأوضح كريم، أن الهدف الرئيس وراء الأغراض الأمريكية في سوريا، هو العمل على ايجاد خط الغاز من قطر إلى تركيا إلى أوروبا لتهديد روسيا اقتصاديا بالاستغناء عن الغاز الروسي ، وأن الصبغة العسكرية التي يأخذها شكل الحرب الدائرة على الأراضي السورية، يستتر تحته الهدف الاقتصادي الأعظم وهو السيطرة على "الغاز السوري".
ولتحقيق ذلك تعمل الولايات المتحدة الاميركية على تعديل استراتيجيتها العسكرية في المنطقة من خلال العودة الى اسلوب الحرب الباردة وهي القواعد العسكرية في المنطقة وللحديث اكثر عن هذا الموضوع
عضو المركز الدولي للدراسات الأمنية والجيوسياسية سومر صالح يقول بهذ الصدد:
منذ منتصف العام 2015 وسلسلة من التحولات الجيو استراتيجية تجري في لعالم انطلاقاً من الأزمة السورية، تؤثر بمجموعها على شكل النظام الدولي وتسدد ضربة قوية للأحادية القطبية الأميركية سيما في شرق المتوسط ووسط أسيا، فالمتغيرين الأبرز هما الدخول الروسي إلى شرق المتوسط (3/9/2015) والمتغير الثاني هو استخدام قاعدة همدان الاستراتيجية من قبل قاذفات سلاح الجو الروسي (16/8/20116)، وهذان المتغيران جريا في إطار تحوليين جيوبولتيكيين ، وهما المناورات الصينية / الروسية في البحر المتوسط منتصف ايار2015 ، والمتحول الثاني هو العودة الروسية إلى أفغانستان من بوابة الحل السياسي وما يعنيه ضمناً.، وهو محور ما سيجري في (14/نيسان 2017) في موسكو، الأمر الذي يعني وصول روسيا بمحورها الاوراسي الناشئ، والصين بفضائها الاقتصادي "شنغهاي" إلى البحر المتوسط براً عبر إيران ووسط آسيا, لذلك تعمل وزارة الدفاع الأميركية بشكل متصل عبر إدارتي (اوباما وترامب) على تطويق هذا الوصول إلى المتوسط عبر استراتيجية ثنائية في المنطقة، انطلاقاً مما يجري في الأزمة السورية,، المستوى الأول هو تطويق الوجود الروسي شرق المتوسط بسلسلة متكاملة من القواعد العسكرية إنطلاقاً من تركيا عبر (26) قاعدة ونقطة تجسس وتحكم وسيطرة أميركية، وصولاً إلى تفعيل برتوكول أربيل واشنطن (2016) لبناء خمس قواعد أميركية في كردستان العراق (مازال الكتمان يلف هذا البروتوكول)، مضافاً إليها (4 قواعد ومهابط طائرات) جوية أميركية في العراق أبرزها(بغداد- الطليل —H1 — باشور) إضافة إلى استخدام قاعدة التاجي وعين الأسد في العراق, والحلقة الجديدة في الموضوع هي بناء قواعد أميركية في الأردن "غير رسمية" تحت إسم قوات الأسد المتأهب وتعدادها (6000 جندي أميركي) وتشير مصادر إعلامية إلى تسميتها بقاعدة فيصل، ناهيك عن الاتفاقية الأمنية الإسرائيلية/ الأميركية وتحويل "إسرائيل" بموجبها إلى أكبر قاعدة أميركية في المنطقة، ولو أضفنا إلى هذا القوس الأمريكي قاعدة إكروتيري في قبرص للناتو وبريطانيا حينها يكتمل سوار النار للوجود الروسي شرق المتوسط.
وأردف صالح قائلاً:
أما المستوى الثاني من هذه الاستراتيجية فهو الفصل الجغرافي بين القوة المندفعة عبر ايران _روسيا والصين باتجاه المتوسط، من خلال مشروع اقلمة العراق ومناطق " الاستقرار المؤقت" التي تعمل عليها إدارة ترامب على تحقيقها في بادية حماد والتنف والبوكمال السورية إ، ضافة إلى التواجد الأميركي "العدوان" في المنطقة الشمالية الشرقية من سورية،هنا يلتقي المشروع الأميركي في أقلمة العراق وربما تقسيمه مع المشروع الأميركي في "فدرلة سورية" لبلوغ عتبة الفصل الجغرافي، حينها يمكن أيضاً مد أنبوب النفط والغاز (القطري السعودي الإسرائيلي) عبر هذا الحيز الجديد إلى تركيا والعودة إلى نقطة البدء في الحرب على سورية أرضا وشعبا وقيادة.
وختم الخبير صالح قائلاً:
الرد الإيراني- الروسي جاء على لسان ظريف وزير الخارجية الإيراني في إمكانية وضع القواعد الإيرانية "كل حالة على حده" في محاربة الإرهاب، وبالتالي خلط الأوراق مجدداً على الولايات المتحدة في وسط آسيا خصوصا أن قاعدة "دوشنبة" الروسية في طاجكستان ستسهل الإستراتيجية الروسية هناك، ويبقى العمل على وحدة العراق وسلامة أراضيه هي الاستراتيجية الأكثر فعالية من قبل روسيا وإيران في تقويض الإستراتيجية الأميركية هناك.
في معرض هذه التطورات يقول المستشرق والدبلوماسي الروسي السابق الدكتور فياتشيسلاف ماتوزوف:
الصراع بين الدول الكبرى مستمر، وأنا لا أستطيع أن أصف أن العلاقات الروسية الأمريكية بالحرب الباردة ، ولكن الصراع السياسي مستمر في الساحة السورية ، وفي الساحة الليبية ، وفي الشرق الأوسط بشكل عام ، وكذلك الأمر في أوكرانيا ، وفي أوروبا ، وقضية الأركتيك ، ومناطق العالم كله معرضة لهذا الصراع بين روسيا وأمريكيا ، ففي الشرق الأوسط حول سورية بدون شك ، فإنه نتيجة العمل العسكري في المعارك الأخيرة للجيش العربي السوري تراجعت القوى الإرهابية أمام الجيش العربي السوري بدعم كامل وشامل من القوات الفضائية الجوية الروسية ، وكذلك في بعض الأحيان قوات خاصة ، وقوات الشرطة العسكرية التي تراقب المناطق المحررة ، وهناك أسباب مختلفة للتراجع السياسي الأمريكي في سورية تبدأ من النجاحات المحققة في الميدان ، ولكن لاننظر إلى هذه التراجعات على أنها استسلام أو تغيير جذري في السياسة الأمريكية ، بالعكس نحن نشهد تدخل جديد للولايات المتحدة في سورية ،عندما أرسلوا الف مقاتل إلى دعم الإتحاد الديمقراطي الكردي في شمال سورية دون أي ترخيص أو موافقة من السلطة الشرعية في سورية ، ورغم تغيير المصطلحات في تصريحات ترامب ووزير خارجيته ومندوبته في الأمم المتحدة فقدإعتترفوا أن هدف الولايات المتحدة في سورية هو ليس إسقاط النظام الشرعي أو تنحي الرئيس الأسد لانهم فشلوا بشكل واضح أمام الجميع، لذلك هم يعدلون الآن في مواقفهم وسياساتهم.
كما وأشار الدكتور ماتوزوف إلى أن: الرد الأمريكي كان قد ظهر واضحاً في قمة البحر الميت ، وكانت هناك إشاعات مؤكدة حول أن الولايات المتحدة كانت تسعى إلى تشكيل حلف جديد على غرار حلف شمال الأطلسي في منطقة الشرق الأوسط يضم دول الخليج ، وكذلك إسرائيل ، ليضموا على هذا الأساس إسرائيل إلى الدول العربية بحجة التخوف من العدو الخارجي وتوحيد الصفوف العربية والإسرائليلية ، وظهر أن القضية الفلسطينية باتت مسألة ثانوية ، والأكثر من ذلك تقديم إقتراحات أمريكية وإسرائيلية للتراجع عن فكرة حل الدولتين ، بحيث يصبح هناك دولة واحدة هي دولة إسرائيل من الضفة الى البحر المتوسط ، وتركزت القمة على تصعيد شعور العداء لإيران والضغط على روسيا في علاقاتها السياسية والإقتصادية والعسكرية مع إيران.
وأردف الدكتور ماتوزوف قائلاً:
رأي الشخصي أن روسيا لاتتحدى الولايات المتحدة بأي شكل من الأشكال ، والعلاقات الروسية الأمريكية ستكون الأساس في السياسة الخارجية الروسية في المستقبل ، لأننا نحن لايمكننا أن نهمل إهمالاً كاملاً الدور الأمريكي في العالم ، أمريكا دولة كبرى ومهمة وترساتنها العسكرية تساوي ترسانة العالم العسكرية ، وهنا عندما نقول أننا نتفهم الدور والنفوذ الأمريكي بكل الأمور الدولية فهذا لايعني أننا نوافق على هذا الدور، ولايعني أن روسيا تقبل بأن تتدخل الولايات المتحدة في شؤنها الداخلية ، ولا في الشؤون الإوكرانية ، ولاحتى في الشؤون الداخلية لدول الشرق الأوسط ، التركيز الروسي الآن على مصر كدولة كبرى في المنطقة وأكبر الدول العربية ، وهذا الدور المصري ظهر في قمة البحر الميت عندما قال الرئيس السيسي أن هناك بعض الدول في الخليج تتدخل في شؤون بعض الدول العربية الشقيقة ، كما قال هو ، لتخريب البنى التحتية وإزالة السلطة الشرعية ،ومن هنا يتضح أن مصر تتمسك بثبات بفكرة مكافحة الأرهاب وترسخ دورها ، والرئيس السيسي قال هذا بكل وضوح ، الأخوان المسلمون يتلقون الدعم السياسي والمادي ليس من قطر فقط بل من الولايات المتحدة بإدارتها السابقة.
وختم الدكتور ماتوزوف حديثه بالقول:
حالياً هناك زيارة الرئيس السيسي إلى الولايات المتحدة ، ولا شك أن الموقف المصري من الأخوان سيكون في معرض الحديث والحوار لوضع الإخوان على اللائحة السوداء للأمم المتحدة وهذا ماكانت الولايات المتحدة ترفضه سابقاً ، لأن الأخوان المسلمين كانوا إحدى أدوات السياسة البريطانية ، ومن بعد ذلك إستخدمتهم الولايات المتحدة لمواجهة الدول التي تتعارض مع سياساتها ، ومن هنا نرى وضوح الموقف المصري ، نحن رأينا أن بداية أحداث التمرد في سورية كانت الولايات المتحدة ضالعة فيها بإستخدام الأخوان المسلمين ، وأعتقد أن الموقف المصري موقف بناء ، وأتصور أن روسيا سوف تستمر في تفعيل العلاقات مع مصر لحل الكثير من القضايا وخاصة مساندة الشعب الليبي كي يستعيد إستقراره السياسي والإقتصادي ، ونرى أن مصر وتونس والجزائر تؤيد موقف المشير حفتر الذي يقود أكبر قوة عسكرية في ليبيا في مكافحة الإرهاب، الذي جاء الكثير منه من التابعين لتنظيم داعش هاربين من سورية إلى ليبيا عبر تركيا هاربين تحت ضربات الجيش العربي السوري ،وهناك تحركات مريكة واضحة لتركيبهم في حكومة السراج التي رفض البرلمان الإعتراف بها ، لكون معظم وزرائها من العناصر الإسلامية المتطرفة.
إذاً نرى أنه رغم الخلافات الحادة القائمة بين روسيا والولايات الأمريكية المتحدة لابد من وجود نقاط إلتقاء تسعى روسيا إلى تحقيقها في خدمة مصالح الطرفين ، وفي خدمة الأمن والإستقرار العالميين ، بالرغم من كل ماتقوم به الولايات المتحدة من مكر ومناورات لتحقيق أهدافها وأجندتها دون التنسيق مع روسيا أو أي طرف دولي آخر ، لكن من الواضح أن الولايات المتحدة وصلت إلى مرحلة اللمس على الرأس.
فهل سنرى تطور إيجابي من قبل إدارة ترامب يحقق الأفضل لجميع الأطراف بعيداً عن الحروب وإستثمار الإرهاب ؟
هذا ما قد نراه في المرحلة القريبة القادمة في حال حكمت الولايات المتحدة العقل