من هنا دخل السلطان أوالخليفة أوالقائد، في تلك البقعة أوعلى تلك الأريكة جلست إمرأة كان لها أثرها في تاريخ مصر وربما المنطقة، في تلك الحارة أو العطفة أو الزقاق ولد هذا الشاعر أو القائد، هنا كان ديوان المظالم، وعلى الجانب الآخر المشفي والمدرسة والحانة والورشة.
نعم لقد رأيت بالفعل عبقرية الزمان والمكان والإنسان، الجميع متعانق في لوحة فريدة نادرة الوجود، تؤكد أن من وضعها ونسق لها عبرالعصور كان على علم وفن وذوق رفيع وحس مرهف.
"شارع المعز" هو التاريخ ذاته ماثلاً أمام العالم يحكي تاريخ قرون لدولة وبلد جذوره ضاربة في أعماق التاريخ الإنساني "مصر" ، لقد جمع هذا الشارع كل مقومات الدولة، التي قد تجعلك تطلق عليه "دولة المعز"، فلم يخلو الشارع من دواوين الحكم والمشافي والورش والدكاكين، والأسبلة والمساجد والحمامات والحانات وبيوت وقصور الأمراء والعامة، ما بين الشارع والحارة والعطفة، يحكي كل شبر قصة.
بداية الرحلة
عندما قررنا الذهاب إلى "شارع المعز"، تلقينا العديد من الوصفات للطرق التي ستؤدي بنا في النهاية إلى المكان، واخترنا أن تكون بداية الرحلة من ميدان رمسيس بوسط القاهرة من أمام مسجد الفتح التاريخي، حيث سيارات السرفيس الصغيرة الحجم والتي لا يتجاوز عدد ركابها عن خمسة أفراد، وقفنا لحظات حتى جاءت إحدي السيارات وسألنا قائدها، نريد الذهاب إلى شارع المعز، فأشار لنا بالصعود للسيارة، وبدأت الرحلة في شوارع القاهرة المزدحمة.
وفي أوقات التوقف عند إشارات مرور السيارات، دار حديث مع قائد السيارة، والذي شرح لنا أن شارع المعز هو أحد الشوارع العريقة وله عدة مداخل من شارع الأزهر ومن الجمالية ومن خان الخليلي، وما هى إلا دقائق وصعدت السيارة فوق كوبري علوي يتوسط شارع لا يتجاوز عرضه الـ 10 أمتار.
ونحن في السيارة فوق الكوبري والذي اعتقد أنه قد تم تصميمه لكي يرى من يمر فوقه نسمات التاريخ تمرعبرالذاكرة في خلال دقائق مروره، فمن فوق هذا الكوبري تري المحلات وزحامها والأزهر بمآذنه المميزة والتي تجاوز عمرها الـ1000عام ولا يفوتنا مسجدالحسين "حفيد الرسول الكريم"، بجانب قبة السلطان الغوري وشارع المعز وخان الخليلي وغيرها.
توقفت السيارة وأشار لنا قائدها بوصولنا إلى المكان على الجانب الآخر من الشارع، اجتزنا الطريق عبر نفق أسفل الشارع وكان في مواجهتنا مسجد الحسين بساحاته الفسيحة ومأذنته المميزة وعن شمالنا مجموعة من "الكافيهات" المميزة، يليها لوحة فنية غاية في الجمال من البازارات المتنوعة "خان الخليلي"، دخلنا بحارة ضيقة تشبة عالم "الأحلام" من كثرة ما بها من التحف والهدايا ذات الأشكال الفريدة، والتي تعبر عن كل العصور، تم نحتها بواسطة فنانين محترفين لتحاكي القطع الأصلية الحقيقية.
توقفنا في بداية الممر أمام أحد المحلات لنسأله عن شارع "المعز" وجهتنا الرئيسية، فأشار لنا بالإستمرار في السيرحتى التقاطع، وصلنا للشارع وبدأت أنظارنا تتجة نحو اليمين واليسار، إلى أي الإتجاهات نسير وسط تلك التحفة الفنية، لا نريد أن نترك مكاناً أو معلماً دون أن نراه.
بمجرد أن تدخل الشارع وتبدأ عملية التعايش الواقعي مع التاريخ تشعر بنوع من التجديد بداخلك، فها أنت قد تحللت من زحام السيارات وعوادمها، ومن المباني الشاهقة والسيارات المجنونة، أنت الآن تعيش التاريخ، كل ما تشاهده من حولك لا يعبرإلاعن لوحة فنية نادرة قد لا يشعر بها من يسكنون أو يعملون بالشارع، لكن الشارع بالفعل يجذب ويبهر زائره للمرة الأولى واعتقد الثانية والثالثة.
وصلنا إلى أشهر أماكن النحاس المزخرف والمنقوش، إلتقينا "ابو احمد" يعمل في أحد المحلات والذي أكد أن هناك الكثير من القطع النحاسية التي شاهدناها مقلده من القطع الأصلية وبنفس الأشكال والأحجام، هذا علاوة على وجود قطع قديمة بالفعل، وأن عمليات التقليد لا تهدف للغش وإنما لتلبية الطلب المتزايد على تلك الأشياء، ونحن نوضح للمشتري أنها ليست القطع الأصلية، وتتنوع محتويات المحل بين التحف والأسلحة وأدوات تزيين المساجد وأواني الطهي والمائدة وغيرها من الأشياء المستخدمة في الحياة اليومية.
انتقلنا إلى "دكان" أخر مساحته لا تزيد عن تسعة أمتار، مزدحم بأنواع وأشكال كثيرة من الأدوات التي كانت تستخدم في القصور وبيوت الأثرياء وفي الكنائس والمساجد.. وقالت لنا "سهام" التي تدير المكان نظراً لمرض زوجها، أنها تحصل على تلك الأشياء من المواطنيين الذين يحتقظون بها ولكل قطعة سعر حسب قيمتها التاريخية والمكان الذي كانت فيه، وانها اصبحت اليوم لديها خبرة كبيرة تستطيع من خلالها تحديد القيمة التاريخية لأي قطعة، وتابعت "سهام" أن بعض الناس يكون لديهم تلك الأشياء الثمينة ولا يعرفون قيمتها، وفي أحد المرات جاءني واحد و معه قطعة وتفاجأ عندما قلا له السعر، وعندما يريد سائح أو مشتري أي قطعة، أخبره بكل مميزاتها وعيوبها.
ما إن تركنا النحاسين حتى جذبتنا أصوات الغناء وآلة العود والجيتار، في أحد أركان الشارع حيث بجلس مجموعة من الشباب ويلتف حولهم المارة في الشارع ويتفاعلون معهم، في امسيات فنية وثقافية مفتوحة، هنا يعرض الشباب مواهبهم مباشرة على الجمهور بدون وسيط، تعرفنا عليهم وأكدوا أنهم هواه ويعشقون الفن رغم أنهم يحملون مؤهلات مختلفة.
وبعد دقائق من السير تجد على شمالك مجموعة "قلاوون" يقابلها سبيل محمد على أو مدرسة النحاسين "متحف النسيج الحالي"، حيث تكسو الواجهات الخارجية النقوش والزخارف التي تحكي كل منها عن العصر الذي ولدت فيه.
تشخص ببصرك إلى الأمام، لا تشاهد إلا التاريخ يتجسد في كل شبر، وجدنا مجموعة من الشباب والفتيات يرتدون أزياء من عصور مختلفة ويقومون بإلتقاط الصور التذكارية، إقتربنا منهم للتعرف على ما يقومون به.
قال لنا أحد الشباب الذين يقومون بتأجير تلك الملابس أسمي "احمد"، نقوم بشراء تلك الملابس التي تمثل عصور مختلفة ونقوم بتأجيرها للشباب والفتيات ممن يرغبون في صور تذكارية ووسط تلك الأجواء الضاربة في القدم، ونتقاضى مبلغ مقابل التصوير بتلك الملابس، وهى مهنة تتوافق مع المكان والزمان.
تقدمنا خطوات فإذا بنا أمام مكتبة "سوق الفن"، تحمل واجهتها هذا الإسم وهى تحوي مقتطفات من كل الفنون، تتنوع بين النحت والزخرفة والتصوير الفوتوجرافي والمشغولات اليدوية والزخارف والكتب والتمائيل.. إلخ
لا تشعر كيف يمر بك الوقت وأنت تتنقل بين كل تلك اللوحات الفنية، والتي يحتاج كل منها ساعات طويلة للإستمتاع به، مرت بنا الساعات حتى داهمنا الليل، وتحول الشارع إلى أيقونة أخرى من الجمال نتيجة الإضاءة التي تم وضعها بطريقة فنية، وبدأت تظهر لنا "الكافيهات" والتي يعبر كل منها عن عصر معين، وتخيم عليها الأجواء الملكية والسلطانية، تشعر عند الجلوس في إحداها أنك أحد ملوك أو سلاطين عصر ما.
يوم كامل قضيناه في الشارع، نظرت إلى الساعة قاربت على الثانية عشر مساءً، استبد بنا التعب والإرهاق الذي لم نشعر به إلا بعد وصولنا إلى المنزل.. كانت رحلة رائعة نستكمل فصولها لاحقاً