كنت دائما أتساءل حول ماهية ذلك الرجل، بوتين، وأظن أنه نفس التساؤل لدى مخرج عظيم وحاصل على الأوسكار 3 مرات مثل أوليفر ستون، قرر أن يخوض التجربة، ويطرق باب الرئيس، والمفاجأة أن بوتين قبل أن يجلس أمام كاميرات ستون وفريقه، من مايو/ أيار 2015 حتى فبراير/ شباط 2017.
وثائقي ستون "محاورات بوتين"، بشكله الحالي، لو نفذه مع شخص آخر، لكانت النتيجة حوارا تليفزيونيا عاديا، ولكنه أمام شخصية لديها من الكاريزما والثراء الفكري، ما جعل لذلك الحوار المتقطع المتصل، حالة متفردة، وتحول ستون إلى محاور ذكي، يصنع "مانشيتات" صحفية، مع كل رد من بوتين، وهكذا كانت الأجزاء الأربعة للفيلم، عبارة عن عُقد على حبل، نتسلقها لنصل إلى داخل عقل ذلك الرجل، الذي أعاد للاتحاد الروسي مجده، وأعاد العالم لثنائية القطب مرة أخرى.
قدم أوليفر ستون في حواراته مع بوتين، شخصية جديدة لم نكن نعرفها، حينما تحاور معه في عدة أماكن داخل الكرملين، وبيته الريفي، وملعب الهوكي، ومقر الاتصالات الخاص بالرئيس، ومكاتبه، وكذلك عدة قاعات في مقره، وطائرة الرئاسة، وحتى سيارته الرئاسية التي قادها بنفسه، وجلس ستون بجواره، شرب معه قهوته التي قدمها الرئيس بنفسه، بعد "أكشن" التي ناداه به ستون.
وقدم أوليفر ستون سينما جديدة، حينما صنع من حواراته لغة بصرية بديعة، من خلال كاميراته البسيطة الموزعة في المكان أثناء الحوار، مع مصورين يلتقطون سؤال المحاوِر، ولغة جسد المُحاوَر، وحركات يديه، وملامحه عند الأسئلة الحرجة.
تعامل ستون مع بوتين كمصدر ثري، ولكنه لم يخلق من حواره معه حالة العدائية، حتى كاميراته، صنعت حالة ودية، ولذلك كانت ردود بوتين حتى في الأسئلة الحرجة، غير عدائية بصرياً، وهذا راجع لتعامل الرئيس الروسي الجيد مع الكاميرا، واستخدامه الجيد للغة الجسد، وكذلك لحساسية كاميرا ستون، وتعاملها الرائع مع ذلك الشخص المدرب جيدا على إخفاء مشاعره جيداً، من خلال لغة جسده.
أوليفر ستون الحائز على جائزة الأوسكار 3 مرات، تعامل مع رئيس يملك رصيدا كبيرا من الأسرار، واستطاع أن يحصل منه على ما يريد، شاركه قهوته، وانتظره لساعات حتى ينهي مشغولياته، ليبدأ حواره معه في الحادية عشرة ليلاً، تجول معه في مقره، وشاهد محادثاته مع قادة الجيش الروسي، ناقشه في أخطر ما قيل عنه، وأسمعنا ضحكات الرئيس صاحب نصف الابتسامة الدائمة.
ولو كنت من الجالسين في صالة العرض معنا، لسمعت ضحكات عالية، على ردود بوتين الساخرة، وسرعة بديهته العالية، ومزاحه مع ستون وفريقه، في ظهور مختلف لذلك الرئيس، صنعه حوار أوليفر ستون، ذلك الصحفي الذكي القابع تحت ثوب المخرج.
لم يخف أو ينحني أمام ذلك "الرهيب" كما تصوره صحف الغرب، ولكنه استطاع النفاذ إلى قلبه، وصنع أسطورة وثائقية لن تحصل طبعا على الأوسكار، بحكم العدائية الأمريكية ضد بطلها، لكنها ستبقى وثيقة خالدة لحالة العالم في مطلع القرن الحادي والعشرين.
المقال يعبر عن رأي كاتبه