في كل عام يتوجه علماء من جامعة جزر هاواي ومن وكالة ناسا ومن الجامعة الوطنية للأبحاث النووية، وكذلك العديد من المراكز العلمية الأخرى في العالم، في بعثة غير عادية إلى القارة القطبية الجنوبية وبالتحديد إلى قاعدة ماك-موردو، حيث يشاركون في عملية غريبة نوعاً ما. هؤلاء العلماء يقومون بإطلاق المناطيد المليئة بمعدات متطورة جداً في الهواء القطبي البارد، ويتركونها تحت إرادة الرياح لمدة 3-4 أشهر.
هذه المناطيد هدفها البحث عن شيء واحد وهو النيوترينوهات عالية الطاقة. وهذه المادة عبارة عن آثار للانفجارات والكوارث الكونية الكبرى التي حدثت وتحدث في مراكز المجرات وفي محيط الثقوب السوداء الهائلة وكذلك في أجزاء أخرى من الكون، حيث مازال علماء الفلك يتجادلون حولها.
ويوضح الباحث الفيزيائي بهذا الشأن قائلاً: "في الواقع لا يمكن أن نصف المناطيد بأنها شيء قديم وعفى عليه الزمن، إذ أن المناطيد الحديثة يمكن أن تحافظ على مستوى ارتفاعها وأن تنخفض وترتفع في أوقات مختلفة من اليوم، وأن تقوم بأداء العديد من المناورات الأخرى. وهي تختلف عن الأقمار الاصطناعية بشكل إيجابي في أنه يمكن إعادة استخدامها عدة مرات، مما يقلل بشكل كبير من تكلفة إجراء الاختبارات".
بالإضافة إلى ذلك، فإن المناطيد، كما يشير العلماء، يمكن أن ترسل وأن تستقبل كمية كبيرة من المعطيات أكثر بكثير من الأقمار الاصطناعية وكذلك تتمتع بالعديد من المزايا الأخرى التي أجبرت الفريق العلمي من مشروع ANITA من اختيار "إرث القرن التاسع عشر" كقاعدة أساسية لمجموعة من أجهزة الكشف المصممة في الولايات المتحدة الأمريكية وفي الجامعة الوطنية للأبحاث النووية.
العلماء الأمريكيون المشاركون في مشروع ANITA يبحثون عن هذه النيوترينوهات منذ عشرة سنوات، لكنهم حتى الآن لم يتمكنوا من العثور على أي جسيمات من هذا القبيل. هذه لا يمكن اعتبارها مشكلة، فهناك مشروع آخر من هذا النوع، والحديث يدور عن تلسكوب بيير أوجير المثبت في أعالي الجبال، والذي اكتشف 20 أو 30 شعاعاً كونياً يتمتع بطاقة عالية جداً خلال عمل استمر لعقود من الزمن دون انقطاع.
على عكس النيوترينوهات العادية التي تنتجها الشمس والنجوم الأخرى، فإن النيوترينوهات عالية الطاقة، كما يعتقد العلماء اليوم، تظهر خلال عمليات غير عادية للغاية، بما في ذلك من خلال تفكك جزيئات المادة المظلمة، والتي يعمل العلماء على معرفة طبيعتها ومحاولة كشفها من خلال هذه التجارب. وقد أشار نوفيكوف بأن الطبيعة النادرة لهذه الجسيمات أجبرت علماء الفيزياء إلى تحويل القارة القطبية الجنوبية بأكملها إلى كاشف عملاق لمثل هذه النيوترينوهات.
اسمعوا وانصتوا القارة القطبية الجنوبية تتحدث
ويتابع الباحث الروسي قوله: "إن احتمال اكتشاف الجزيئات يعتمد على مؤشرين هما مساحة الكاشف ومدى عمله. في حالتنا فإن جليد القطب الجنوبي يلعب دور الكاشف. هناك كواشف مماثلة على الأرض مثل ARIANA و ARA. وهذه الكواشف يمكن أن تعمل على مدار الساعة وأن تقوم بتسجيل الأحداث على مسافات قريبة جداً. في حين أن المنطاد يسمح لنا برؤية القارة بأكملها تقريباُ وتسجيل الأحداث التي تجري على بعد مئات الكيلومترات عنه".
والسؤال كيف يعمل كاشف من الطبيعة كهذا؟ لقد تم تصميمه على أساس تأثير غريب تم الحديث عنه منذ عام 1962 من قبل العالم الفيزيائي السوفيتي غورغن أسكاريان، الذي لاحظ بأن النيوترينوهات عالية الطاقة سوف تخالف قوانين الفيزياء عندما تصادف مواد كثيفة غير موصلة للكهرباء مثل الجليد أو الملح، حيث يتحرك الضوء فيها ببطء أكثر من الجسيمات نفسها.
كما هو معروف فإن حركة الجسيمات الأسرع من الضوء عادة ما تنتج ومضات من الضوء، ما يسمى بإشعاع فافيلوف- تشيرينكوف. ولكن في حالة النيوترينوهات ذات الطاقة العالية فإن هذه العملية كما أظهر أسكاريان سوف تنتج أشعة الراديو والموجات الدقيقة بخصائص مميزة. وعلى أراضي القطب الجنوبي ليس هناك مصادر إشعاع راديوية باستثناء قاعدة العلماء، وهذا يسمح لهم بالعثور على آثار النيوترينوهات التي تمر عبر الجليد، من خلال استخدام راديو هوائي قوي والذي يشبه من حيث مبدأ العمل التلسكوبات الراديوية التقليدية.
إن أحجام هذه الهوائيات يزداد بشكل دائم مع توسع مشروع ANITA ، وإن الإصدار الرابع الحالي للكاشف هو عبارة عن بطارية ضخمة من أجهزة لاسلكية طولها سبعة أمتار وتزن عدة مئات من الكيلوغرامات. وكما يوضح نوفيكوف فإن مجمع الهوائيات هذا يرتفع بواسطة المناطيد إلى مسافة 37 كيلو متر بحيث يمكن أن يستعرض القارة بأكملها تقريباً.
إن عمليات الإطلاق الأولى لهذه الهوائيات تم قبل إشراك العلماء الروس في هذا المشروع، والتي أظهرت بأن الإشارات اللاسلكية التي يلتقطونها تحتوي على كمية كبيرة من التشويش وذلك بسبب حقيقة أن سطح القطب الجنوبي ليس سطحاً مثالياً. وهنا يوضح الباحث بأن هذه الإشارات الراديوية الطفيلية لابد من إزالتها بطريقة ما من أجل محاولة العثور على النيوترينوهات ضمن المعطيات التي تم جمعها في مشروع ANITA.
وقد أوجد الفريق الروسي الأمريكي لعلماء الفيزياء الذي يترأسه ديفيد بيسون البروفسور في الجامعة الوطنية للأبحاث النووية وفي جامعة كانزاس حلاً عبقرياً لهذه المشكلة. ومن خلال إجراء تجارب مع مختلف مصادر الإشارات اللاسلكية توصل العلماء فجأة إلى طريقة بسيطة ورخيصة لمعالجة المشاكل التي واجهت فريق مشروع ANITA.
وكما تبين يمكن إزالة جميع أنواع التشويش هذه من المعطيات من خلال "قصف" سطح القطب الجنوبي بإشارات راديوية بشكل دوري، والتي يمكن توليدها باستخدام ولاعة كهربائية بسيطة لفرن الغاز، والتي تولد الشحنات الكهربائية لدى الضغط على عنصر البيزو. وبهدف تحقيق ذلك كان من المطلوب إطلاق اثنين من المناطيد الأخرى والتي تكون على مسافة قصيرة من مشروع ANITA، والتي تحدد موقعها في الفضاء عن طريق جهاز مضاعف ضوئي تم تصميمه في مختبر بيسون في الجامعة الوطنية للأبحاث النووية.
ويشير الباحث الفيزيائي في هذا الإطار قائلاً: "نحن نعمل حالياً في الجامعة الوطنية للأبحاث النووية على تصميم النسخة الثالثة من منظومة معايرة الإشارة "HiCal-3" والتي يمكن ألا تحتوي على عنصر البيزو. وخلافاً لما هو عليه المناطيد فإننا يمكن أن نسميه تركة من القرن الماضي. لكن في الحقيقة لا يختلف عن تلك الولاعات التي يأخذها السياح في رحلاتهم من أجل إشعال المواقد وهي تعمل أيضاً في ظروف مماثلة باستثناء بأن من يشعلها هو عبارة عن محرك صغير وليس الإنسان. من جانب آخر هذه الولاعة أثبتت جدارتها، ولم نتمكن حتى الآن أن نجد لها بديلاً مناسباً".
الحياة في ما وراء القطب
بدأت المرحلة الأخيرة من عمل ANITA في شهر كانون الأول/ديسمبر العام الماضي وانتهى في ربيع هذا العام عندما فرغ الباحثون الروس والأمريكان مادة الهيليوم من المناطيد وبعد ذلك توجهوا في رحلة استكشافية باتجاه هذه المنظومة وجلبوا محركات الأقراص الصلبة تاركين في الوقت نفسه الهوائي والجهاز الطائر في مكانه.
وكما يوضح نوفيكوف فإن المنطاد والهوائيات تزن عدة أطنان، ولا يمكن نقلها إلا من خلال الطائرات، وهذه مشكلة حقيقية لأن هبوط هذه الطائرات في ظروف الليالي القطبية مهمة صعبة وخطيرة للغاية.
يعلق العلماء الآمال الكبيرة على المعطيات الجديدة، والتي كما أشار نوفيكوف، يمكن أن تحتوي على التلميحات الأخرى التي تشير إلى أن النموذج القياسي للفيزياء لا يصف بشكل صحيح سلوك النيوترينوهات عالية الطاقة.
ويتابع الباحث الروسي بهذا الشأن قائلاً: "حتى الآن ليس لدينا مثل هذه المعطيات، لكننا لم نعالج كافة البيانات التي تم جمعها خلال الرحلة الأخيرة للمناطيد. وحتى الآن لم نتمكن بعد من العثور على النيوترينوهات ذات الطاقة العالية، ولكن أجهزة الكشف سجلت مرور 14 نوعاً آخر من الأشعة الكونية عبر الغلاف الجوي. ونحن نأمل بأن هذه المعطيات مع البعثات التي تمت في الأعوام 2014-2016 سوف تساعدنا على العثور على عدد قليل من النيوترينوهات والتحقق من النموذج القياسي".
وتابع نوفيكوف بأن الكشف عن هذه الأشعة سوف تسمح ليس فقط بالشروع في البحث عن مصادر هذه الجزيئات الغامضة، ولكن في الواقع سوف تعطي الكرة الأرضية مسرع جزيئات دائم ومجاني قادر على إيصال هذه الجزيئات إلى سرعات وطاقات موجودة خارج قدرات مصادم الهيدرونات الكبير وحتى معجلات الجسميات المستقبلية.
وفي نهاية شهر تشرين الثاني/نوفمبر يخطط الباحث الفيزيائي الروسي العودة إلى القارة القطبية الجنوبية، حيث سيتوجه الفريق العلمي لمشروع ANITA في بعثة أخرى إلى المناطيد، بهدف إجلائها هذه المرة إلى الأرض الكبيرة والإعداد إلى مشروع رحلة جوية مقبلة. هذه العملية التي تبدو بسيطة للوهلة الأولى محفوفة فعلاً بتعقيدات ومشاكل كبيرة فريدة بالنسبة للمناطق القطبية.
ويقول العالم الفيزيائي: "إن العمل في القطب الجنوبي مع الأجهزة الالكترونية ليس مريحاً فقط وإنما خطراً بسبب درجة الرطوبة الصفرية الدائمة هناك. أي أنه إذا ما لمستم أي جسم معدني أو سطح جسم ما فإنه سوف تتشكل عمليات التفريغ الكهربائية الساكنة بشكل دائم تقريباً، وبالتالي نطر للعمل بعناية فائقة مع الشرائح والرقائق الالكترونية".
إن الأحوال الجوية والطقس البارد كما يشير نوفيكوف سببت له ولزملائه انزعاج أقل بكثير من الكهرباء الساكنة أثناء إطلاق المناطيد، ولكن هم مضطرون الآن التوجه في رحلة استكشافية إلى محيط القطب إلى مكان توجد الهوائيات والمناطيد حيث الظروف المناخية المعقدة للغاية.
ويأمل نوفيكوف بأن المعطيات الجديدة وإعادة مشروع إطلاق ANITA سوف تساعد في توضيح أحد أسرار الكون الغامضة وغير المفهومة، والكشف عن بعض ألغاز نشأة الكون من خلال مراقبة الجزيئات التي يمكن أن تكون قد زارت كوكب الأرض على مدى مليارات السنين.