بالفعل بدأت مصر مشروعها النووي منذ العام 1955 بمفاعل "أنشاص" للأبحاث والتجارب والذي تم إهدائه إلى مصر من الاتحاد السوفييتي السابق، وكان هذا المفاعل هو النواة الأولى لدخول مصر للعصر النووى بفارق بسيط عن بعض القوى الكبرى في العالم، ومع وجود هذا المفاعل كان لا بد من تأسيس جهة أكاديمية تقوم بتخريج كوادر فنية وإدارية لكي تدخل مصر في المرحلة التالية وهى المحطات النووية، وبالفعل تم إنشاء قسم الهندسة النووية بجامعة الإسكندرية، وكنت أحد خريجي الدفعة الأولى لهذا القسم، وكنا جميعاً نحلم بالعمل في محطات نووية مصرية.
سبوتنيك: وما الذي حدث بعد ذلك؟
ما حدث هو أننا بعد التخرج في الستينيات وقبل أن نصل لمشروع نووي مصري، جاءت حرب 1967 وما تبعها من أزمة اقتصادية فتوقف البرنامج النووي، وهاجر معظم خريجي القسم للخارج للدراسة والعمل، وقد وصل نصف خريجي الدفعة الأولى من خريجي قسم الهندسة النووية إلى أعلى المناصب القيادية في المحطات النووية العالمية، وأصبحوا أساتذه في أكبر الجامعات الغربية، وكان للكثير منهم الفضل في عمليات تطوير عمليات البحث في البلدان التي عملوا بها.
سبوتنيك: بالتحديد ما هي أهم المحطات التي مر بها البرنامج النووي المصري من البداية وحتى الآن؟
في العام 1953 أطلق الرئيس الأمريكي أيزنهاور مبادرة الذرة من أجل السلام لاستغلال الإمكانات الهائلة الكامنة في الذرة من أجل توفير الطاقة والمياه اللازمتين لحل مشكلات التنمية في العالم، وكانت مصر من أوائل دول العالم التي استجابت لهذه المبادرة لضمان التنمية المستديمة فيها، وتم تشكيل لجنة الطاقة الذرية برئاسة الرئيس جمال عبد الناصر في العام 1955، لوضع ملامح البرنامج المصري السلمي للطاقة الذرية، وفي العام التالي وبالتجيد في يوليو 1956، تم توقيع اتفاق ثنائي بين مصر والاتحاد السوفييتي السابق للتعاون في سئوون الطاقة الذرية وتطبيقاتها في النواحي السلمية، وبعد أشهر قلائل، وفي سبتمبر من عام 1956وقّعت مصر عقد المفاعل النووي البحثي الأول بقدرة 2 ميجاوات مع الاتحاد السوفيتي، وتقرر في العام التالي إنشاء مؤسسة الطاقة الذرية.
في العام 1957 أشتركت مصر كعضو مؤسس في الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وبعدها حصلت مصر على معمل للنظائر المشعة من الدنمارك في العام نفسه، وبدأ تشغيل المفاعل النووي البحثي الأول عام 1961، و تم توقيع اتفاق تعاون نووي مع المعهد النرويجي للطاقة الذرية، وفي عام 1964 طرحت مصر مناقصة لتوريد محطة نووية لتوليد الكهرباء قدرتها 150 ميجاوات "أي 150 ألف كيلووات" وتحلية المياه بمعدل 20 ألف متر مكعب في اليوم، وبلغت التكلفة المقدرة 30 مليون دولار، إلا أن حرب يونيو 1967 أوقفت هذه الجهود.
سبوتنيك: قلتم إن حرب يونيو 1967 أوقفت البرنامج النووي المصري…فكم من الوقت استمر هذا التوقف؟
في العام 1974 وبعد انتهاء حرب أكتوبر من العام 1973، طرحت مصر مناقصة لإنشاء محطة نووية لتوليد الكهرباء قدرتها 600 ميجا وات،
وتم توقيع عقد لإخصاب اليورانيوم مع الولايات المتحدة، وشهد عام 1976إصدار خطاب نوايا لشركة وستنجهاوس، وكذلك توقيع اتفاقية تعاون نووي مع الولايات المتحدة، إلا أن تلك الجهود توقفت في نهاية السبعينيات، بسبب رغبة الولايات المتحدة لإضافة شروط جديدة على اتفاقية التعاون النووي مع مصر نتيجة لتعديل قوانين تصدير التقنية النووية من الحكومة الأمريكية في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر، بحيث تشمل هذه الشروط التفتيش الأمريكي على المنشآت النووية المصرية كشرط لتنفيذ المشروع، وقد اعتبرت الحكومة المصرية هذا الأمر ماساً بالسيادة ورفضته، وأدى ذلك إلى توقّف المشروع.
سبوتنيك: وكيف كانت البداية الجديدة في عصر الرئيس السابق مبارك؟
في العام 1981 انضمت مصر لمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية ووقعت عدة اتفاقيات للتعاون النووي مع كل من: فرنسا، والولايات المتحدة، وألمانيا الغربية، وانجلترا، والسويد، وقررت الحكومة تخصيص جزء من عائدات النفط لتغطية إنشاء أول محطة نووية "محطة الضبعة بالساحل الشمالي"، كما وقعت في العام التالي 1982 اتفاقية للتعاون النووي مع كندا، وأخرى لنقل التقنية النووية مع أستراليا.
وفي عام 1983، طرحت مصر مواصفات مناقصة لإنشاء محطة نووية لتوليد الكهرباء قدرتها 900 ميجا وات، إلا أنها توقفت عام 1986، وكان التفسير الرسمي لذلك هو المراجعة للتأكد من أمان المفاعلات بعد حادث محطة تشيرنوبل، رغم أن المحطة التي كانت ستنشأ في مصر من نوع يختلف تماماً عن النوع المستخدم تشيرنوبل، وكان هذا نتيجة امتناع البنوك الأمريكية وصندوق النقد الدولي عن تمويل ومساندة المشروع، وتم تجميد المشروع مرة أخري بقرار سياسي، ومنذ العام 1986 أجريت دراسات جدوى حول إقامة المحطات النووية وتم استكمال الكوادر المطلوبة للبرنامج، وتم إنشاء محاكي المحطة النووية بالموقع المقترح لهيئة الطاقة النووية بالضبعة، وحدث تعاون بين الوكالة الدولية للطاقة الذرية وهيئة المحطات النووية المصرية، لدراسة جدوى إقامة المحطات النووية ذات المفاعلات الصغيرة والمتوسطة الحجم، وتم الانتهاء من الدراسة عام 1994، وفي عام 1992 تم توقيع عقد إنشاء مفاعل مصر البحثي الثاني مع الأرجنتين، ثم توالت في السنوات 95، 96، 1998 بعض المشروعات المتعلقة باليورانيوم ومعادن الرمال السوداء وصولاً إلى افتتاح مصنع وقود المفاعل البحثي الثاني.
أعلنت مصر في مايو 2002 عن إنشاء محطة للطاقة النووية السلمية في غضون 8 أعوام بالتعاون مع كوريا الجنوبية، والصين، وكانت تلك الخطوة تمثل نقلة نوعية هامة على طريق البرنامج المصري، نظرا لكثرة الكوادر التي تم إعدادها منذ توقف البرنامج في العام، 1986 كما أن المفاعلين الموجودين حاليا يكفيان لتدريب العلماء تجريبيا وليس تطبيقيا، وأرجع البعض إنشاء المحطة الجديدة إلى استيعاب الكوادر الفنية المصرية المتزايدة في مجال الطاقة النووية، ولعدم الاعتماد على الغاز الطبيعي فقط في مجال الطاقة، ولم يمر وقت طويل حتى توقف المشروع من جديد حتى العام 2006/2007.
سبوتنيك: وكيف انتقل المشروع إلى الجانب الروسي "روس آتوم"؟
في العام 2007 عاد المشروع للحياة من جديد وبدأت عمليات تفاوض مع الجانب الروسي، ثم حدثت ثورة 25 يناير 2011 فتوقف المشروع قليلاً، وكان هناك اتفاق مبدئي مع الشركة الوطنية الروسية "روس آتوم"، لإنشاء المحطة النووية في "الضبعة"، تتكون من أربعة مفاعلات قدرة الواحد منها 1200 ميجاوات، بإجمالي قدرة 4800 ميجا وات، وهو الاتفاق الجاري توقيع مراحله النهائية في الوقت الراهن.
سبوتنيك: ألا ترى أن هذا الحلم تأخر كثيرا؟
نعم تأخر كثيرا، فقد سبقت مصر معظم دول المنطقة في البداية، واليوم هناك دول كثيرة في المنطقة تمتلك مفاعلات نووية ودخلت المجال منذ سنوات وبعضها بدأ بالفعل في إنشاء المحطات النووية مثل الإمارات والسعودية، حيث تبني الإمارات 4 مفاعلات لإنتاج الكهرباء، سيتم بدء تشغيل المفاعل الأول منها في العام 2018، رغم وجود البترول والغاز لديهم بكميات كبيرة، فتلك الدول ترى أن مصادر الطاقة من البترول والغاز والفحم علاوة على أنها مصادر ملوثة للبيئة، فهى من المصادر التي تستنفذ مع الوقت، أما الطاقة النووية فهى طاقة مستدامة ونظيفة ولا ينتج عنها أيه انبعاثات ضارة، فالغاز والكهرباء لهم استخدامات أخرى بخلاف إنتاج الكهرباء، فوسائل النقل على سبيل المثال لا تعمل بالطاقة النووية ، لذا فإن استخدام الطاقة النووية لتوليد الكهرباء يخفف الضغط على المنتجات النفطية.
سبوتنيك: في بداية حديثكم ذكرتم أن البداية كانت روسية بمفاعل "أنشاص"، في الخمسينيات، وها هي تعود إلى روسيا في 2017…لماذا؟
كانت علاقات الاتحاد السوفييتي السابق مع مصر في الخمسينات علاقات جيدة ومناصرة لقضايا التحرر في المنطقة، وكانت المواقف المصرية والهندية متوازنة في مجموعة دول عدم الانحياز، وكانا متعاطفين مع الاتحاد السوفييتي، وكان هذا الأمر مثار تقدير من جانب الروس، لوضع مصر والهند على خريطة العالم النووية. والظروف التي تم في ظلها التعاقد في 2017، مختلفة عن الخمسينات تماماً، فنحن اليوم منفتحين على جميع دول العالم، لذا فقد قمنا بانتقاء أفضل العروض الموجودة، وتم دراسة كل العروض التي تم تقديمها لمصر، ووجدنا أن العرض الروسي هو أفضل تلك العروض على الإطلاق من حيث المميزات الاقتصادية "التمويل والوقود والإدارة والضمان"، علاوة على العامل الأهم في المشروع وهو الأمان النووي، كما ستقوم "روس آتوم" بتوريد الوقود النووي وكذا التخلص من النفايات أو إعادة تدويرها طوال عمر المفاعل، وكان للتمويل طويل الأجل والذي سيتم سداده من عائد بيع الكهرباء الناتجة من تلك المحطات، وهذا كان مناسب جداً بالنسبة للظروف في مصر، فكل العوامل سواء السياسية في الخمسينات أو الاقتصادية في الوقت الحالي ساعدت بأن تكون البداية روسية واستكمال المشروع بعد 5 عقود أيضاً روسي.
التمويل ليس الميزة الوحيدة لاختيار العرض الروسي، بل بجانب عملية التمويل هناك عامل أهم وهو الأمان، فالمفاعلات الروسية التي سيتم إنشائها في محطة الضبعة النووية، هى من أحد الأنواع وأفضل التقنيات النووية في العالم من النوع "vver1200"، والتي هى الأكثر أمانا، حيث تم دراسة كل الحوادث السابقة في المفاعلات وتم تلافيها، وفي حالة حدوث تسيب أو إهمال أو حادثة، فإن المفاعل لا يحتاج أي تدخل بشري للسيطرة عليه، ويظل لمدة 72 ساعة، إلى أن يتم السيطرة على الخلل بصورة تقنية.
سبوتنيك: هل ترى أن موقع "الضبعة" هو الأنسب لإقامة المحطة النووية وبما ترد على المشككين في صلاحية الموقع؟
ما أثير من تخوفات عن عدم صلاحية موقع "الضبعة" لاقامة المحطة النووية، هو تخوفات من جانب عدد من رجال الأعمال خوفا على مشاريعهم في الساحل الشمالي، ويجب طمأنتهم لأن المحطات النووية في الخارج إحدى أدوات الجذب السياحي، وقد أجريت الأبحاث والدراسات على عدد من المواقع وتمت المفاضلة بينها، ووجد أن منطقة "الضبعة" هى الأفضل والأنسب لهذا المشروع، والصين تنشيء مفاعل نووي كل شهر أي بمعدل 12 مفاعل سنوي وهو ما يؤكد أن العالم يتجه نحو تمكين الطاقة النووية للحد من تلوث المناخ.
* — أستاذ الطاقة النووية بجامعة وسكانسن بالولايات المتحدة الأمريكية، ورأس فريقا بحثيا مكون من 5 أساتذة، بينهم مصرية و10 طلاب دراسات عليا، بينهم مصرى أيضا، فى أكبر مشروع لتكنولوجيا الاندماج النووى(ITER) اشترك فيه 7 مجموعات من دول: الاتحاد الأوروبى وأمريكا وروسيا والصين والهند وكوريا الجنوبية واليابان، بتكلفة 15 بليون دولار لإقامة مفاعل نووى تجريبى لدراسة الاندماج النووى فى كاداراش بفرنسا.
أجرى الحوار أحمد عبد الوهاب