الحقيقة أن هناك رابطين أساسيين بين الضابط المفصول من الجيش المصري هشام عشماوي والثائر البوليفاري جيفارا؛ الأول تلك المصادفة الدرامية التي جعلت القبض على عشماوي تصادف ذكرى اغتيال جيفارا، فقبل يوم واحد من ذكرى اغتيال جيفارا أعلن القبض على عشماوي، وهي سخرية قدرية لا أكثر.
لا يمكن الجزم بالفصيل/التيار الذي بدأ بحمل السلاح ضد السلطة، ففي التاريخ الإسلامي على سبيل المثال يوجد حركة الخوارج التي ظهرت في القرن الأول الهجري/ السابع الميلادي، وجماعة الحشاشين التي نشطت في أواخر القرن الخامس هجري/الحادي عشر ميلادي، وكذلك استخدم الفوضويين السلاح، وكذلك استخدمها اليسار، بداية القرن التاسع عشر، واستخدمها الإسلاميون (بمختلف اتجهاتهم) في منتصف القرن العشرين.
لذلك يمكن القول إن اختيار حمل السلاح لا علاقة له بأيديولوجية معينة، فداخل كل تيار يوجد فصيل متطرف يؤمن بالحل السريع لمواجهة السلطة، بحمل السلاح وتنفيذ عمليات اغتيال، بينما يوجد فصيل أخر يرى أن الحركة الاجتماعية الموحدة هو الطريق الأفضل لمواجهة السلطة، والفصيل الذي يسيطر على التيار في النهاية هو من يفرض رأيه على الجميع.
الآن وبعد كل هذه السنين يمكن القول إن حمل جيفارا السلاح لم يكن هو الخيار الصحيح، حتى وإن اتفقنا معه على الهدف، ويقفز في الصورة كذلك ترحيب بعض الأشخاص اليساريين باغتيال الرئيس المصري أنور السادات (1981)، فهذه لم تكن مواقف مستندة إلى تأصيل فكري ونظري، بل هي أشبه بمواقف مشجعي كرة القدم.
لكن دعونا نعود للسؤال مرة أخرى: ما الفرق بين ما أقدم عليه جيفارا وما فعله عشماوي ومن هم على شاكلته؟ فكلاهما حمل السلاح، ونظم وشكل عصابات لمواجهة السلطة.
في الكتاب الشهير "الجهل المقدس'' للكاتب الفرنسي، أوليفيه روا، تحدث عن "الجهل المقدس" بأنه الاعتقاد الديني المحض الذي يبنى خارج الثقافات والمعارف، وأن يكون هذا الجهل هو المحرك للأصوليات الحديثة المتنافسة، وبالتالي يسعى فيه "المؤمن الجاهل" إلى الوصول إلى الحقائق الدينية/ اليقين (الزائف) من دون إعمال للعقل والتعمق في النصوص والاكتفاء بظواهر الأمور.
وهذا هو أصل الفوارق بين جيفارا وكل عشماوي طائفي/ ديني في أي مكان في العالم، فتحرُّك جيفارا كان مستندا على فكرة ورؤية، بينما تحرُّك هؤلاء كان قائما على جهل ديني يرونه مقدسًا بقتال المختلفين معهم.
اعتراض جيفارا ورفاقه، على الأنظمة التي حاربها كان في الأساس بسبب مسؤولية تلك الأنظمة عن التفاوت الاقتصادي والاجتماعي الذي انعكس على المجتمع، بينما الخلاف بين عشماوي وما يمثله هو الوصول إلى السلطة، ورفضا لمطالب شعبية هتفت بسقوط مشروع الخلافة، وهو ما يظهر عادة بين أنصار هذا التيار بفرح وفخر بعد أي عملية إرهابية ضد السلطة في مصر، أو حتى ضد المواطنين الذين يعتقدون أنهم يناصرون السلطة، كعمليات استهداف الكنائس وقتل الأقباط.
فالعمليات الإرهابية التي حدثت منذ 2013 تحمل طابع انتقامي ثأري، يستهدف فيه الإرهابي/ التنظيم إلحاق الضرر بمن يراه خصما له، كأنها خصومة ثنائية الشعب خارج حسابه.
أما خلاف جيفارا مع الأنظمة السلطوية كان في إطار مشروع تقدمي يحرر به الناس من العبودية والاستغلال والاضطهاد، بينما حمل عشماوي السلاح انتقاما من الدولة (النظام الحاكم والمجتمع) وتأسيسا لمجتمع العبودية لمن يتحدثون باسم الله (الحاكمية) واستغلالا لشعوب مقهورة، واضطهاد لأجناس وديانات وثقافات وميول مختلفة.
في حفل تأبين جيفارا قال أحد الحضور: "إن ثلثي الإنسانية من المضطهدين قد فجعوا لوفاته. الثلث الأخير، لا ينكر أبدا في عمق روحه، بأن مستقبل التاريخ إذا سعينا إلى عالم أفضل ينتمي إلى تشي"، هكذا خلق جيفارا أسطورته، وهكذا ظل للأبد فكرة في عقول ملايين الشباب حول العالم، وصورا معلقة في كل مكان، بينما لن يتذكر أحد عشماوي بعد أيام أو شهور، بالتأكيد لن تجد مناضلا في أمريكا اللاتينية يرتدي معطفا عليه صورة عشماوي، لأن هناك فرقا كبيرا بين مناضل وإرهابي، فرقا كبيرا بين رجل عاش ومات يحلم بعالم حر وشعوب تتحكم في مصائرها، وآخر يحمل السلاح متهما المجتمع بالجاهلية، ساعيا إلى خلافة تستعبد الناس تحت مسمى الحاكمية.
أغلب من يقدسون جيفارا يرونه رمزا لمواجهة الإمبريالية العالمية في القرن العشرين، وهو الشخص الذي وقف في وجه أمريكا، ودفعها لدفع ملايين الأموال للتخلص منه، يرون أنه رمز للتضحية ورفض أن يكمل في السلطة، وقرر أن يكمل دوره كثوري في غابات أمريكا اللاتينية، وظل كذلك حتى قتل. لذلك يمثل جيفارا أيقونة ثورية ضد الظلم والاضطهاد والاستغلال، لكن هؤلاء لا يؤمنون بمسألة الكفاح المسلح وفكر العصابات في النضال ضد السلطة.
وكذلك يمكن القول إن عشماوي قد يكون أيقونة عند الجماعات الإسلامية المسلحة التي تؤيده لكن هذا لا يجعله أبدا مثل جيفارا، فهدف عشماوي في النهاية الرجوع للخلف، ويمثل مصالح مجموعة طائفية ضيقة، إذ إن قتل الأقباط ليس عملا تحرريا بأي حال بل هو عمل رجعي صرف.
(المقال يعبر عن رأي كاتبه)