هذه الاستراتيجية التي تراجع عنها جونسون ولم تتبناها الحكومة البريطانية في النهاية، وصفت بالخطيرة وغير الواقعية من قبل علماء وسياسيين، لأنها ببساطة تعني "ترك مجموعة من الناس يموتون لحين بناء المناعة الجماعية".
في الحقيقة، حتى مع التفشي الواسع للفيروس في بعض المناطق لم تكن هناك مؤشرات قوية على إمكانية فرض المناعة الجماعية بهذه السهولة. أظهرت أكبر دراسة من نوعها في أوروبا أن 5% فقط من سكان إسبانيا طوروا مناعة مضادة للفيروس.
إسبانيا هي واحدة من أكثر البلدان تضررًا بالفيروس بنحو 300 ألف إصابة وقرابة 30 ألف وفاة، ومع ذلك لا تزال بعيدة عن مناعة القطيع، التي يحتاج تحقيقها إلى تشكيل 70% إلى 90% من السكان أجسامًا مضادة، وهذا يعني أن البلد بحاجة لوقت أطول وتفشي أوسع نطاقًا كي تنجح في هذه الإستراتيجة.
هذا لا شك يعني أن تكلفة استراتيجية "مناعة القطيع" ستكون باهظة الثمن من حيث خسائر الأرواح، والأكثر أنه ربما (عند مرحلة ما) ينهار القطاع الصحي نتيجة الضغط الكثيف من المصابين والوفيات، وبالتالي ستكون المأساة أكبر وسيفقد الكثيرون حيواتهم حتى أولئك الذين يعانون مشاكل طبية غير "كوفيد 19".
الخيار الآخر
في الحقيقة لم تكن خيارات الحكومات واسعة لمواجهة الجائحة الحالية التي تعد أشد أزمة صحية عالمية منذ مائة عام، فلو لن يكون بمقدور الحكومات مواجهة المشكلة بصدر عار دون أن تأبه للخسائر الصحية، فهل سيكون عليها فرض قيود صارمة على الحركة والتجمعات لتفادي السينارو الأسوأ؟
في الواقع، سيناريو الصدور العارية أو المجتمعات المفتوحة في مواجهة الوباء ربما يعد الأسوأ من وجهة نظر الأطباء وعلماء الأوبئة، لكن هناك سيناريوهات أخرى لا تقل سوءًا يلتفت لها الساسة والحكومات وخبراء الاقتصاد.
فإذا كانت الحكومات سلتجأ إلى تشديد القيود وتضييق الخناق على فرص انتشار الفيروس (كما رأينا في أوروبا والشرق الأوسط والأمريكتين خلال الثلاثة أشهر الماضية) فإن الخسائر الاقتصادية ستكون فادحة.
لأنه ببساطة مع قبوع الناس داخل منازلهم، ستتضرر الكثير من الأنشطة الاقتصادية مثل التجارة والسياحة والسفر، وبما أن الاقتصاد يقوم على بناء شبكي، فإن التداعيات ستصل تقريبًا إلى كافة القطاعات (رأينا انهيار أسعار النفط وإفلاس شركات التجزئة والمطاعم في أمريكا).
حتى أن خسائر الأراوح نتيجة الفقر والجوع في بعض المناطق التي كانت تعتمد على مساعدات ودعم الدول المتقدمة، قد تتجاوز ضحايا كورونا، وفقًا لتقرير حديث لمنظمة "أوكسفام"، والذي حذر من وفاة 12 ألف شخص يوميًا حتى نهاية العام، من جراء الجوع.
ما الحل إذن؟
يبدو أيضًا أن فرض القيود المطلقة لحين انتهاء الوباء لن يكون خيارًا على الإطلاق، إذ تبدو خسائره المادية والصحية أكثر فداحة (على الأقل من وجهة نظر سياسية واقتصادية)، وسبق للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، التأكيد على أنه لن يستطيع إغلاق اقتصاد بلاده لعامين أو أكثر (الفترة المقدرة لانحسار الجائحة).
لتخفيف الضغوط على الأنظمة الصحية ومنح الاقتصاد قبلة الحياة، تلجأ الدول إلى ما يعرف بالإغلاق المعدل وهي إستراتيجية هجينة، تقوم على الجمع بين الإغلاق والفتح، بمعنى أنه يتم غلق الاقتصاد تماما لحين انحسار العدوى ثم يتم فتح مجددًا لينتعش الاقتصاد والحياة الاجتماعية مع الحفاظ على بعض القيود.
وفي حال تسارع انتشار العدوى بشكل كبير من الممكن إغلاق البلاد أو بعض المناطق مجددًا (كما يحدث في أمريكا وجنوب أفريقيا وأستراليا الآن)، هذا يبدو حلًا معقولًا للموازنة بين الجانبين الصحي والاقتصادي.
لكن هذا يعني أيضًا توزيع الضغوط على الجانبين، وبدلًا من المخاطرة بانهيار أحدهما، سيتم القبول بمعاناة جزئية لكليهما. هذا يعني أن آمال العودة للحياة الطبيعية التي عاشها الإنسان قبل الجائحة معلق أساسًا بانتهاء الوباء تمامًا.
لكن كيف يحدث ذلك إذا كانت فكرة مناعة القطيع بعيدة المنال وباهظة التكلفة؟ ببساطة إذا كنا نحتاج للتحصن ضد الفيروس فلا سبيل سوى تطوير "لقاح" فعال يمنح البشر حصانة ضد المرض الوبائي وبالتالي يتم كسر سلسلة العدوى، ويستطيع الناس مباشرة حياتهم الطبيعية.
سباق محتدم
إدراك الحكومات لأهمية اللقاح في إنهاء معاناة الشعوب الصحية والاجتماعية وكذا الضغوط الاقتصادية، خلقت حالة من التسابق بين الدول والشركات والمؤسسات البحثية، أملًا في الوصول سريعًا اللقاح الذي من شأنه حسم أوجاع البشرية.
ليس من المبالغة القول بإن هذا السباق يشبه كثيرًا سباقات التسلح والتكنولوجيا في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، فقد اعتمد البعض خلاله على حلول "أنانية" و"تصريحات زائفة".
على سبيل المثال:
كشفت تقارير إعلامية في مارس/ آذار الماضي، أن الولايات المتحدة الأمريكية عرضت أموالًا طائلة على شركة ألمانية أحرزت تقدمًا في إنتاج لقاح مضاد كورونا. المشكلة هي أن واشنطن طلبت إنتاج اللقاح حصريًا لها دون غيرها من الدول، وهو ما قاومته برلين بشدة.
الخوف من الرغبة في امتلاك السلاح الحاسم للوباء حصرا، ربما غذى المخاوف من عدم الحصول على اللقاح، وبالتالي عزز دوافع الحكومات للعمل على تطوير لقاحاتها الخاصة.
من يصل أولًا؟
وفقًا لمنظمة الصحة العالمية، فهناك أكثر من 100 لقاح يتم تطويره الآن في مختلف المؤسسات البحثية والشركات الدوائية حول العالم.
- ألمانيا:
بالنسبة لشركة "كيورفاك" التي كانت مطمعًا للإدارة الأمريكية، فقد جذبت الأنظار إليها في وقت مبكر من هذا العام مع بداية الجائحة، عندما قالت إنه من المحتمل أن تطويره بحلول الخريف المقبل.
- أمريكا:
يتم تطوير عدد كبير من اللقاحات المضادة لفيروس كورونا، لكن الرئيس ترامب قال مؤخرًا إن بلاده تعمل على 3 لقاحات مرشحة بقوة، وتأمل إدارته بالحصول على لقاح فعال وجاهز للتوزيع بنهاية العام الجاري.
- بريطانيا:
تتعاون الجامعات والشركات معًا للإنتاج أكثر من لقاح لـ"كوفيد 19"، وتتوقع الحكومة إنتاج اللقاح البريطاني الأول بحلول النصف الأول من العام القادم.
- روسيا:
هناك أيضًا جهود لتطوير أكثر من لقاح، ودخلت التجارب المرحلة الأخيرة من الاختبار، ويقول مسؤولون إنه من الممكن إنتاج اللقاح المأمول في سبتمبر/ أيلول المقبل.
- الصين:
في البلد الذي كان منشأ لفيروس كورونا المستجد، وافقت الحكومة على اختبار 8 لقاحات محتملة، بعضها وصل إلى مرحلة متقدمة في الاختبارات النهائية.
- اليابان:
في الدولة التي كانت ناجحة إلى حد كبير في احتواء انتشار الفيروس، خصصت الحكومة 140 ينًا لتطوير اللقاح الخاص بها، وتعهدت ببدء تطعيم المواطنين به في النصف الأول من العام القادم.
- ليس فقط الدول الكبرى:
قالت مصر إنها تختبر 4 لقاحات محتملة لـ"كوفيد 19"، وتستعد لبدء مرحلة التجارب السريرية قريبا، ما يعني أنها قد تكون على بعد شهور من تطوير اللقاح.
فيما تخطط الهند لإطلاق لقاحها الخاص في أغسطس/ آب القادم، وفقًا لمستندات مسربة، وهي خطط أثارت سخرية وشكوك الخبراء، إذ يرى المختصون أنه لا يمكن تطوير لقاح وتوزيعه بهذه السرعة.
ماذا يقول المختصون؟
تشكك منظمة الصحة العالمية في إمكانية إنتاج اللقاح قريبا، وتقول إن الأمر سيستغرق على الأقل سنة أو 10 أشهر في أحسن الأحوال.
هناك خوف آخر حول السعر المحتمل للقاح والذي يمكن أن يقوض وصول الدول الفقيرة له، ما يعني استمرار الوباء لفترة أطول وإعادة تصديره من هذه البلدان إلى أماكن أخرى بما في ذلك تلك التي انحسرت بها العدوى.
في النهاية، فإن وجود مصادر عدة للحصول على اللقاح سيكون من شأنه تقويض أي احتمالات للانتهازية المادية أو السياسية (يخشى البعض من استغلال اللقاح للتربح على حساب معاناة البشر أو كورقة ضغط سياسية على بعض الدول).
وكما كانت الجائحة نفسها اختبارًا لمدى إنسانية سكان الأراض وساستهم، وأيضًا وتحدي علمي استثنائي، فإن اللقاح المنتظر سيشكل امتحانا آخر (ربما أكبر) لصدق البشرية ورغبتها في التعايش ومد يد العون بغض النظر عن الاعتبارات السياسية والمادية، لذا فالسؤال الأهم ليس "من يصل أولا" وإنما "من ينتصر للبشرية أولا".