وخلال السنوات العشر، كثيرا ما تردد مصطلح "العدالة الانتقالية"، وهو وعد أطلقته سلطات ما بعد الثورة بالقصاص لضحايا الاستبداد في عهد النظامين السابقين لها ممن تجرعوا كأس الاغتصاب والتعذيب الوحشي في السجون والاختفاء القسري والحرمان من الشغل، لكن في حقيقة الأمر ظل هؤلاء الضحايا دون تعويض مادي أو معنوي.
فعلى الرغم من إصدار هيئة الحقيقة والكرامة التي تعنى بملف العدالة الانتقالية تقريرها الختامي في 24 يونيو/حزيران 2019 ونشره بالرائد (الجريدة) الرسمي للجمهورية التونسية، إلا أن أيا من الضحايا لم يتمتع بجبر الضرر.
تقرير الهيئة وثق 47 ألفاً و468 انتهاكا لحقوق الإنسان ثبتت فيها صفة الضحية، من جملة 62 ألفا و720 ملفا عرض لديها.
وتشمل هذه الانتهاكات الفترة الزمنية من يوليو/تموز 1955 إلى حين صدور القانون المحدث للهيئة سنة 2013، أي ما يغطي فترة حكم الرئيسيْن الحبيب بورقيبة (يوليو1957-نوفمبر 1987) وزين العابدين بن علي ( نوفمبر 1987- يناير 2011) وسنتين من حكم الترويكا بعد الثورة.
تقصير حكومي وضعف مالي
وأكد النائب بمجلس نواب الشعب (البرلمان) والعضو السابق في هيئة الحقيقة والكرامة خالد الكريشي لـ "سبوتنيك" أن الهيئة أنهت مهامها باصدارها للتقرير النهائي الذي يوثق جميع الانتهاكات وضبط مقررات جبر الضرر لضحايا الاستبداد في الفترة السابقة.
وتابع "تحولت الكرة اليوم إلى ملعب رئيس الحكومة الذي أعلن مؤخرا فتح حساب صندوق الكرامة ورد الاعتبار لضحايا الاستبداد، لكن تفعيل هذا الصندوق بقي رهين أمرين أولهما غياب الإرادة السياسية لدى جميع الحكومات المتعاقبة بعد الثورة وآخرها حكومة هشام المشيشي المشكلة من أطراف سياسية تلعب دورا هاما في تعطيل مسار العدالة الانتقالية".
وأضاف الكريشي أن السبب الثاني الذي يكمن وراء تعطيل تنفيذ عمليات جبر الضرر هو الجانب المالي، "فصندوق الكرامة لا يحوي اليوم سوى 10 مليون دينار (3.72 دولار أمريكي) خصصت من ميزانية الدولة لسنتي 2018 و 2019، وبالتالي فإن بقية الموارد ستكون رهن حصول تونس على الهبات والتبرعات أو تنفيذ اتفاقيات التحكيم والمصالحة".
ويرى النائب التونسي أن مسار العدالة الانتقالية ما يزال طويلا على اعتبار أنه لا يقتصر فقط على جبر الضرر لضحايا الاستبداد وإنما أيضا حفظ الذاكرة التي تدخل بدورها في إطار رد الاعتبار للضحايا.
القفز على العدالة الانتقالية
من جانبه، قال الكاتب العام للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان (مستقلة) بشير العبيدي لـ "سبوتنيك"، إن مسار العدالة الانتقالية ما يزال معطلا قياسا بالمدة الزمنية التي قضتها هيئة الحقيقة والكرامة في فحص الملفات وإنجاز أعمالها.
وأضاف أن الهيئة أنهت مهامها رغم التعثرات، وكان من المفترض أن يتم تطبيق مخرجاتها عملا بالقانون عدد 53 لسنة 2013، قائلا "لكن الحكومات المتعاقبة ما تزال تنظر إلى هذه المخرجات من زاوية سياسية وترفض التفاعل معها بالشكل القانوني الإيجابي".
وأوضح العبيدي أن "جميع الحكومات التي تعاقبت على تونس منذ 2014 إلى اليوم حاولت القفز على استحقاقات العدالة الانتقالية والمرور مباشرة إلى المصالحة دون المحاسبة، أولهم الرئيس التونسي الراحل الباجي قائد السبسي الذي فرض تمرير قانون المصالحة".
وأشار إلى أن منظومة الحكم السابقة ترفض القبول بمخرجات هيئة الحقيقة والكرامة "لأن لديها ارتباطات وثيقة بمنظومة الحكم القديمة التي نُسبت إلى أفرادها الانتهاكات على المستوى الاقتصادي والمال
واعتبر العبيدي أن منظومة الحكم الحالية ستعيد نفس السيناريو، وأن مبادرة رئيس الدولة قيس سعيد المتعلقة بالمصالحة مع رجال الأعمال الفاسدين تتنزل في إطار الانقلاب على مسار العدالة الانتقالية.
أمنيون فوق القانون
وفي ذات السياق، أكد العبيدي أن المنظومة الأمنية والعسكرية التي وثقت الهيئة ارتكاب أعضائها انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان من تعذيب وقهر وقتل، تسعى هي الأخرى إلى تعطيل مسار العدالة الانتقالية والقفز على استحقاقات المتضررين وآلامهم.
وأوضح أن عددا من الأمنيين والمسؤولين السابقين في وزارة الداخلية خاصة في عهد الرئيس السابق بن علي يرفضون الخضوع إلى إجراءات المحاكمة في الدوائر القضائية المتخصصة في العدالة الانتقالية رغم أن المباشرين عليها هم قضاة متكونون في العدالة الانتقالية على مستوى دولي.
وأكد أن أسماء هذه الشخصيات معروفة ومذكورة في التقرير الختامي لهيئة الحقيقة والكرامة بدء من وزراء الداخلية الذين انتهكوا حقوق الإنسان في العهد السابق للثورة.
ويقول العبيدي من صلب تجربته الخاصة ومعاينته لعديد الجلسات المخصصة لتنفيذ العدالة الانتقالية "من المؤسف والمخجل أن يصرّح رئيس الجلسة أن مصالحهم لم تتمكن من معرفة عناوينهم رغم أنهم يزاولون عملهم في مقرات أمنية معروفة للقاصي والداني".
غطاء نقابي
وأفاد الكاتب العام للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان أن هذه الشخصيات الأمنية المتورطة في الانتهاكات تحظى بغطاء النقابات الأمنية المعادية للعدالة الانتقالية والموالية للمنظومة القديمة التي تنادي اليوم بإلغاء مخرجات العدالة الانتقالية رغم نشر التقرير النهائي لهيئة الحقيقة والكرامة بالرائد الرسمي.
من جانبه، يؤكد الناطق الرسمي باسم الائتلاف المدني لمساندة مسار العدالة الانتقالية مكرم الحجري، ما ذهب إليه العبيدي، قائلا في تصريح لـ "سبوتنيك"، إن "النقابات الأمنية دعت جهرا في بياناتها الرسمية الأمنيين المتورطين في الانتهاكات ضد ضحايا الاستبداد إلى عدم الحضور في الدوائر القضائية المتخصصة في العدالة الانتقالية بتعلة تشكيكهم في المحاكمة العادلة ورفضهم لمسألة التقاضي على مرحلتين".
وأكد الحجري أنه عاين تأجيل 9 جلسات للعدالة الانتقالية بكل من ولايتي الكاف (شمال غرب) والقصرين (غرب) بمعدل 318 يوما بين الجلسة والأخرى، فضلا عن قرار المجلس الأعلى للقضاء بنقل 30 قاضي مختصين في مجال حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية.
وطالب "لجنة شهداء الثورة وجرحاها والعفو العام وتنفيذ مخرجات العدالة الانتقالية" بالبرلمان بالتدخل من خلال استدعاء وزير الداخلية وإلزامه بتطبيق القانون على هؤلاء مع ضمان محاكمتهم محاكمة عادلة.
وكانت هيئة الحقيقة والكرامة أحالت 200 قضية إلى المحاكم المتخصصة في العدالة الانتقالية في مارس/آذار 2018، تتضمن تورط 200 شخصية أمنية ومسؤولين سابقين بوزارة الداخلية أثبتت الهيئة ضلوعهم في ارتكاب انتهاكات ضد حقوق الانسان.