ورغم أن العالم بأجمعه كان ينتظر وبفارغ الصبر ولادة أول لقاح مضاد لهذا الفيروس، إلا أن تطوير عدد من اللقاحات في أكثر من دولة، في روسيا وحدها أربعة لقاحات، واعتماد هذه التطعيمات في عدد كبير جدا من دول العالم، لا بل وفوق ذلك تطعيم عدد كبير من سكان كوكبنا، لم يكن كافيا ليشل حركة هذا المخلوق أو الكائن العجيب.
فقد بدأ الفيروس يتحور إلى سلالات مختلفة أكثر إيلاما وأسرع انتشارا وأشد فتكا، فأصبحنا نسمع بسلالة جنوب أفريقيا والسلالة البريطانية، وآخرها السلالة الهندية "دلتا" التي أخذت تصيب الناس بسرعة غير اعتيادية وتنتقل عبر الحدود والبحار والمحيطات لتفتك بأرواح الكثيرين، وتزيد معاناة الدول الغنية والفقيرة.
لقد تركنا هذا الوضع الجديد أمام سؤال أو تساؤل يبدو أن لا جواب له بعد ألا وهو: ماذا يخبئ لنا مستقبل هذه الحرب الضروس بين البشرية والفيروس ذي التاج الذي أصبح ملكا لا بل إمبراطورا متوجا يقود قواته الفيروسية ليحتل بها كل بقاع العالم دون استثناء، ويعلن عن قيام أكبر دولة في تاريخ البشرية من حيث المساحة الجغرافية التي تسيطر عليها، متجاوزة بذلك كل ممالك وإمبراطوريات التاريخ من مغولية ورومية وفارسية وعربية وعثمانية وغيرها؟
ولكن.. ما الحل؟ هل نقف مكتوفي الأيدي ونستسلم ونرفع الراية البيضاء وننتظر مصيرنا الغامض؟
الجواب بكل تأكيد: لا. يجب أن يسهم كل منا في هذه الحرب، فكيف يكون ذلك؟
لن نتدخل في الشؤون الطبية والصحية، فلها أهلها وناسها وهم لم ولن يبخلوا بجهد أو نقطة عرق، سواء في ساحات المعركة (الأطباء والممرضون والمتطوعون)، أو في المخابر ومراكز الأبحاث حيث العلماء وخبراء الأوبئة يعملون ليلا ونهارا لتجهيز لقاحات مضادة وأدوية علاجية.
إن الوضع الصعب طويل الأمد وغير الاعتيادي الذي فرضته الجائحة يجعلنا نفكر بجد ونعمل أيضا على التعايش معه بطريقة تسمح لنا بالخروج من هذه الحرب بأقل خسائر ممكنة ريثما تضع أوزارها وتعلن البشرية نصرها المؤزر.
إجراءات السلامة والتباعد وارتداء الكمامات ومنع التجمعات وإغلاق المدارس والجامعات والمطاعم والمعامل والشركات، جُرِّبت ولسنا ضدها من حيث المبدأ، ولكن إلى متى؟ هل تحتمل اقتصادات الدول؟ هل تحتمل جيوب الفقراء كل ذلك؟ وهل تتوقف الحياة على الكوكب لسنوات أخرى؟
على الناس جميعا وفي مقدمتهم أصحاب القرار التعايش مع فكرة مفادها أننا وإن كنا لا نزال نعيش على نفس الكوكب، إلا أننا نعيش بشكل مختلف كليا عما قبل كورونا.
أصبح الانتقال من العالم الورقي إلى الافتراضي الإلكتروني، وإن كان بشكل جزئي وتدريجي، ونسبي وحسب إمكانات كل دولة، أمرا لا بد منه.
عندما ننتقل إلى التعامل الإلكتروني يستطيع كل شخص وهو جالس في منزله أن يحصل على أي وثيقة يحتاجها أو يبرم أي عقد أو اتفاق يرغب به، ويشتري كل ما يلزمه من مواد وبضائع وحاجيات، دونما حاجة لخروج ودخول وركوب مواصلات واختلاط وتجمع وما إلى ذلك.
لقد أثبت تجربة العمل عن بعد كم هي ذات منفعة للمجتمعات والدول والبيئة. بالطبع لا نستطيع القول أنها تجربة مثالية وناجحة 100%، ولكنها بكل تأكيد حلت مشاكل كثيرة وخففت أعباء ثقيلة من على كاهل الشركات والمؤسسات، وستسهم بكل تأكيد إذا ما طبقت مستقبلا بطريقة مدروسة في اختصار كثير من النفقات عبر تقليص مساحة الأماكن المستأجرة أو المشتراة وكذلك وسائل المواصلات والمعدات والآليات وغيرها من الأمور اللوجستية الكثير.
ليس كل عمل يمكن أن ينفذ عن بعد ولا كل عامل أو موظف قادر على العمل من البيت، فالتفاصيل والجزئيات تختلف من عمل إلى آخر ومن شخص لآخر، لكن ذلك لا يمنع من الاستمرار في التجربة والعمل على تحسينها.
نعود إلى المعاملات الإلكترونية، حيث بدأت دول كثيرة بتطبيق شبة جديٍّ للتعامل الإلكتروني في المعاملات الرسمية والمحاكمات وكل ما يتصل بها من إجراءات، وفي العديد من المجالات والأماكن الأخرى، فنجحت في تحقيق نقلة نوعية في العلاقة بين المواطن والموظف، وساهمت في تقليل الاحتكاك بينهما وخففت الكثير من الوقت والجهد على الاثنين، في الوقت ذاته نجد أن بعض الدول لم تعِ أهمية التعامل الإلكتروني، أو على الأقل لم تبذل جهدا حقيقيا للانتقال إليه، إلا في مرحلة الجائحة بعد أن أدركت أنه لا مفر من ذلك لما فيه من فوائد تفوق بكثير الأضرار، إن وجدت.
إن ربط دوائر الدولة وهيئاتها بشبكة بيانات إلكترونية واسعة، وتثقيف موظفي الدولة ومواطنيها بطريقة التعاطي مع هذا النوع الجديد من الخدمات، أمر غاية في الأهمية، والأمر الأكثر أهمية قبل ذلك كله هو تنظيم هذا الموضوع وتأطيره في الشكل القانوني الصحيح، أو تفعيل التشريعات الإلكترونية النائمة وذلك بتوفير العوامل اللوجستية والتقنية و البنية التحتية التي تسهم في تطبيق النص القانوني في الحياة العملية.
فعلى سبيل المثال، لا نستطيع أن نفهم نصا قانونيا أو تعليمات تنفيذية شارحة لنص ما تسمح بتبليغ المدعى عليه في الدعاوى القانونية عبر الرسائل النصية أو رسائل البريد الإلكتروني في الوقت الذي تعاني منه مساحات كبيرة من البلد الذي سيطبق فيه من غياب شبكة الهاتف الخلوي أو ضعفها وكذلك شبكة الإنترنت التي قد لا تصل لمناطق كثيرة في البلد وإن وصلت فسيعيبها بطء شديد يجعلها عالة على المستخدم لا وسيلة خدمية.
وهكذا علينا أن نهيئ عوامل النجاح، ثم نسن التشريعات القانونية التي تسمح بتطبيق التكنولوجيا الحديثة وتسخيرها في سبيل خير الإنسان وتطوره وحصوله على القدر الأكبر من العدالة التي يبحث عنها ويستحقها، فالتكنولوجيا ليس عليها أن تواكب القانون وتتبعه وإنما على القانون أن يواكب التكنولوجيا ويحميها ويبث الحياة فيها بشكل رسمي عبر اعتمادها والاعتراف بها في نصوصه ومواده.
لقد أبدعت التكنولوجيا وقدمت الكثير والكثير من الخدمات والآليات والمعدات والطرق الجديدة التي تسهم في توفير الوقت والجهد ومحاربة الفساد والروتين والبيروقراطية، والأهم من ذلك تخفيف التجمعات قدر المستطاع، وهذا ما نحتاجه بكل تأكيد في عصر الجائحة، وهنا يأتي دور التشريعات التي يجب أن تكون مرنة قابلة للتعديل، بشكل علمي ومنظم، كلما دعت الحاجة إلى ذلك.
الأمثلة لا تعد ولا تحصى عن الخدمات التي وفرتها التكنولوجيا للقانون، حتى في مرحلة ما قبل الجائحة، فها هي كاميرات المراقبة في كل مكان تكشف هوية عدد كبير جدا من المجرمين، وكذلك صفارات الإنذار التي قد تمنع وقوع الجرم من أساسه، وها هو اختبار الحمض النووي يسهم في منح الولد حقه وإلزام والده الحقيقي بالاعتراف به ومنحه لقبه إذا ما تمنع عن ذلك. وكذلك نجد البطاقات المصرفية تحل محل العملة الورقية وتتجه لتصبح الوسيلة الأولى للدفع عبر العالم، ناهيك عن جنون عالم العملة الافتراضية (بيتكوين وأخواتها).
أضف إلى ذلك العقود الإلكترونية وتطبيقاتها وكيف أصبحت حاجة ملحة وضرورية تحل مشاكل المسافات وتجعل إبرام أي صفقة مسألة ثوانٍ قليلة بعد الانتهاء من المفاوضات. أَلَم تتجه الدول إلى إبرام عقود الزواج إلكترونيا وكم معضلة ومشكلة حلها هذا التوجه، وليس بعيدا عن ذلك أَلَم تستطيع وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الإلكترونية أن تحل، ولو بشكل جزئي، مسألة إيقاف التعليم في المدراس والجامعات، وقبل ذلك هل نستطيع أن ننكر أنها خففت بشكل ملحوظ جدا من قلق الأهل وحزنهم عند غياب أولادهم في دول بعيدة، لعمل أو دراسة، وجعلتهم على تواصل يومي وعلى مدار الساعة مع الأولاد وأدخلت الطمأنينة إلى قلوبهم.
إذن، نستطيع أن نصل إلى نتيجة من كل ما سبق ألا وهي أن اتحاد التكنولوجيا والقانون سيمنح البشرية سلاحا فتاكا لا مثيل له فنضع بذلك يدنا بيد الأطباء (جنود الصفوف الأولى) ونصل إلى النتيجة المرجوة ألا وهي القضاء الكلي على هذا الفيروس اللعين وتحقيق نصر جماعي للبشرية قل نظيره على مر التاريخ، إن لم يكن الأول من نوعه على مر العصور والأزمنة.
المقال يعبر عن رأي كاتبه