ولد موباسان بقصر ميرونمسنل بنورمانديا، في 5 أغسطس/آب 1850، درس القانون، والتحق بالجيش الفرنسي ثم عمل ككاتب في البحرية.
وقابل جوستاف فلوبير عن طريق صلات أسرته ليصبح فيما بعد تلميذه المخلص، وقد قدم فلوبير لتلميذه نظرية للنجاح الأدبي تتكون من ثلاثة أجزاء: لاحظ، لاحظ، ثم لاحظ.
من أشهر قصصه "كرة الشحم"، "بيير وجان"، ومن أهم قصصه القصيرة: "العقد" و"الآنسة فيفي".
وفي لقاء لـ"سبوتنيك" مع الأديب والباحث والناقد، الأستاذ الجامعي الدكتور عبد الهادي صالحة قال: كان موباسان يقول إن هناك من الحقائق ما يساوي الناس عدا. فكل منا يكون لنفسه صورة خادعة عن العالم. وهو خداع شعري أو عاطفي أو بهيج أو مقبض أو قذر أو كئيب حسبما تكون طبيعته.. كخداع الجمال وهو تقليد إنساني… وخداع الدمامة وهو فكرة متغيرة… وخداع النذالة الذي يستهوي الكثيرين… وكبار الفنانين هم أولئك الذين يستطيعون حمل الإنسانية على قبول انخداعاتهم الخاصة".
ووصف الكاتب صالحة موباسان بالرسام الأكبر للعبوس البشري "ودوما ما كان يصاب بصداع وكان يتلوى ساعات من الألم حتى أصيب بالجنون سنة 1891 ومات في إحدى المصحات. "
وفي دراسة نقدية لأدب وأعمال موباسان، اختصر صالحة الكاتب الفرنسي غي دو موباسان بعبارة "الأمل فخ والمنطق أيضا".
وأضاف: يتمتع موباسان — الأستاذ الذي كرس نفسه لفن القصة — بثروة أدبية متميزة، إذ اعتبره النقاد غير الفرنسيين القاص الفرنسي الوحيد دون منازع، وفي الوقت نفسه مؤسس مدرسة دولية — من جوزيف كونراد إلى إسحاق بابل؛ حيث ينتسب كتاب عديدون إلى منهجه — الذي لم تقدره فرنسا حق قدره، ونظرت إليه منذ عام 1970 ككاتب طبيعي موهوب تربى في ظل غوستاف فلوبير وإميل زولا.
نشر موباسان رواية "بول دوسويف" في 1870 التي فرضته كاتبا متميزا أمام الجميع.
تروي هذه الرواية قصة امرأة بغي يقنعها أناس شرفاء، لينقذوا حريتهم، بتسليم نفسها إلى رجل، ومن ثم ينبذونها من مجتمعهم…. في الحقيقة إن نجاح "بول دو سويف" يدشن العمل الصحفي لموباسان كمدون أخبار ذي شهرة، شارك في مجلات عديدة مثل "Le Gaulois" وفي "LEcho de Paris" ثم في "Le Figaro"، عنده إذا خبرة بعالم الصحفيين ومدوني الأخبار والمخبرين الصحفيين الذين يصفهم دون مجاملة.
ملاحظات دقيقة، أفكار سطحية، أسلوب واضح سلس، إنشاء حسن التوازن، تلك هي الميزات التي ينسبها التقليد الجيلي إلى إنتاجه، لكن هذه الكتابة التي تتجاور فيها العفوية والسهولة يحركها شعور مأساوي… هذا الإنتاج يشهد بأهميته الكمية على تحول تاريخي؛ حيث تبدو شخصيات قصصه ضحية المصير نفسه، وكأنها قابلة للتبادل فيما بينها، وهذه علامة نهاية التيار الفردي للقرن التاسع عشر.
وقال صالحة في دراسته المطولة حول الكاتب موباسان: مع موباسان تظهر في الأدب الفرنسي غنى مواد الحكايا، لكن المواضيع نفسها تتكرر دائما، استحالة الاتصال بين الناس، الحب التعيس لكائنات مولعة بالمثال وأخرى حبيسة حواسها، تفكك العائلة، الحرب، الجنون، الموت، والنقد القاسي لإنسانية أنانية، قليلة الذكاء ومنافقة، والأوساط هي نفسها تقريبا: الريف النورماندي الذي يقطنه فلاحون وريفيون نبلاء، وباريسيون حيث يتجاور الناس دون أن يعرفوا بعضهم وهم موظفون صغار وسيدات محترمات وبغايا. ولا تختلف الشخصيات إلا حسب انتمائها إلى طبقة اجتماعية: أغنياء، فقراء، نبلاء، برجوازيون، نساء ضعيفات، أزواج مخدوعون، عشاق متطلفون… ومآسيهم التافهة لا تكفي لتميزهم ولتفردهم عن الآخرين بصفات خاصة.
حكايا اليأس
عاش موباسان مثل كل أبناء جيله متأثرا بتجربة الحرب، وخاب أمله في عصر تستقر فيه القوة المالية، لا يستطيع أن يفلت من التشاؤم ويبقى مخلصا لـ"جمالية الملاحظة" عند فلوبير.
يقتنع موباسان أن الأمل فخ، هذه الأطروحة التي يكررها بعناد في حكاياته المرتكزة في معظمها على المخطط نفسه: يأمل الإنسان بالتحرر، بالخروج من مجال مغلق، أو من وضع خانق، على الأقل يوم واحد، ثم عندما يظن أخيرا أنه يتنفس يعود الملزم ويضيق خناقه عليه بوحشية، وإذا لم ينته الأمر بالموت يجد الإنسان نفسه مقيدا بالتزام مخنوقا بالديون وغارقا بالحزن والكآبة. هذا القدر الموجود والحاضر في مؤلفات موباسان والذي يمحو إرادة الفرد يبقى غير محدد: لا يمكن فهمه مثل سلطة المال، ولا يمكن اختراقه مثل قوة الدوافع التي تتصرف بطرق لاواعية، بيد أن هذا القدر اللاعقلاني — حسب رأيه — يعقلنه كاتب يسعى أن يكون واقعيا.
إن تشاؤم موباسان لا ينتج فقط من ملاحظة المجتمع الذي فقد فيه الإنسان كل سيطرة أو تأثير على واقع اقتصادي لم يعد قادرا على التكيف معه، بل يجب عليه أن يكتفي بإرضاء شهواته الوقتية أو بطمع دنيء. كتب موباسان إلى فلوبير في حزيران 1878 يقول: "تمر في خاطري أفكار واضحة أن لا جدوى من الحياة، وأن الخلق يعاني من شر لا واع، وأن الفراغ يلف المستقبل «مهما يكن»، ما يجعلني أشعر بلا مبالاة تجاه الأشياء جميعا".
في الواقع، حياة هذه الشخصيات متقلبة ومائعة مثل العالم الذي تعيش فيه. إنها تخاف من الخوف، كما يقول أحد أبطال قصصه، زد على ذلك أن الأطروحة الكبيرة لنتاج موباسان التي تقول إن — الأمل فخ — تساندها أطروحة فكرية — المنطق فخ — والتي يتطلب البرهنة عليها حكايا يمكن تشبيهها إلى دراسات في اليأس العقلاني.
يرسم موباسان في كتاباته الحب وانفعالاته وثوراته وآلامه؛ إنه يعبر عن جوهره الخالد في ملاحظة حديثة جدا تنبئ نوعا ما بالتحليل النفسي.
كما أن موباسان يعطي في كتاباته مجالا واسعا للرغبة والشهوات الحسية الني تبدو له كعامل حاسم وجوهري في الحب. إنه يدرس- بوجه خاص — مأساة الزوجين، والخلافات الأخلاقية والجسدية التي يتصارع فيها هوى المرأة ونزواتها مع طيش وعبث وتفاهة الرجل. هذا الرجل ليس جميلا في قصصه ورواياته ومسرحياته، بل هو خليط من الغرور والخفة والضعف والفظاظة.
يعرض موباسان الواقع بكل أمانة، وتمتاز قصصه ورواياته بدقة الملاحظة والبساطة القوية للأسلوب، غير أنه في كل هذا لا يوجد فلسفة عميقة؛ لقد اعتنق موباسان في الوسط المحيط مذهب الانسياب للمظاهر. إنه يرى الإنسان بشعا بما فيه الكفاية، قليل الذكاء، متوحشا في ميوله وشهواته، متطلبا ومتشددا في أنانيته، قويا أو مختلا حسب طبعه وظرفه وبقوة أو بدهاء، يركض باستمرار وراء اللذة العابرة.
يتكلم موباسان في كتاباته عن الإنسان بكليته، إنه يتكلم عن أجساد، لكنه يتكلم أيضا عن أنفس وأرواح. ولا يبدي رأيه حول سبب الظواهر، ولكن يكفيه أن يتفق كل الناس على أنظمة الوقائع المشار إليها بأسماء الأفكار والرغبات والمودات والإرادات.
ويمضي الأديب السوري صالحة في موباسان قائلا: إنه يعطي للطبع مكانه ولكن ليس لديه مطلقا أي ميل للدراسات النفسية الدقيقة، ولا يذهب أبدا إلى حد كتابة الرواية النفسية الصرفة.
إن طريقة موباسان هي في الحقيقة طريقة توفيقية، يعبر من خلالها عن القوى والدوافع والحوافز والقوى الخاصة للوعي عن طريق مظاهر الحياة بالحركات وبالأفعال. كل شيء عنده واقعي وصلب. ويمكن القول بأن لغة موباسان هي لغة وجودية، الإنسان "مهمل" في عالم لا صلة له به، يعني في عالم الفراغ والفوضى والعدم. إنه لا يصور الحياة بل يصور الرعب، الضيق، الحقارة، الموت الخفي للحيوان، الإنسان الفاشل في تحقيق سعادته.
باريس
يرسم موباسان ببراعة عظمة وانحلال باريس ومجتمعها المتفسخ بأخلاقه المنحطة… باريس تلك العاصمة الأسطورية للنجاح هي أيضا في مؤلفاته عاصمة الرذيلة. إن تألق وروعة وعظمة العاصمة الباريسية يفسر التضارب والاختلاف الذي يوجد بين باريس والمناطق الريفية الفرنسية في "نهاية العصر". باريس هي متاهة غنية بالوعود وأيضا بالأفخاخ.
بعد عام 1885 يعرض موباسان — القارئ الكبير لشارل بودلير- بشكل أساس إغراءات هذه "المدينة النجسة"، والتي تدعى المخدرات والدعارة وانتهاك الأخلاق ومخالفة القانون والانتهازية والوصولية. يستغل موباسان من خلال باريس قضايا مختلفة منها مثلا: التعرض للشبهات التي تنغمس فيها الحياة الفرنسية. كما يركز على وسيلتين اثنتين للصعود الاجتماعي: المال والنساء. فباريس- كما يصورها موباسان- مجال جذاب ومغر ولكنه خطر حيث لا تهدف فيه المرأة المتمدنة إلا إلى اجتذاب الرجال بسحر خدعها وحيلها. باريس هي المدينة التي يفقد الإنسان فيها ذاته؛ كثير من الفنانين يتحولون فيها إلى متملقين وينحرفون عن حبهم للجمال لمصلحة هذا المعبود الذي يمارس قوى جذب كبيرة في معبده الباريسي: المال يقود ويحرك كل شيء في كتابات موباسان، كما هو الأمر عند بلزاك. إنه عالم يعمل فيه المال ويقتل.
لقد ارتاد موباسان صالونات العاصمة، وأدان النفاق والرياء الاجتماعي، وأظهر تفكك الآلية القاسية لأناس المجتمع، وكشف عن الكوميديا الإنسانية، وربط بشك خفي المصطنع بالمثالي. لقد رسم موباسان بحس الملاحظة المرهف عنده لوحة للباريسيين: أصحاب الزوارق وأصحاب الحوانيت والموظفين الحقيرين، وخصوصا الصحفيين المنحلين والمتنورين، فيهاجم ويفضح تحالف الصحافة والمال والسلطة.
بالتأكيد هذا العالم هو عالم مغلق تملؤه الوساوس والخدع والغش، عالم تهريج ومزاح وتهكم وسخرية تساعد على تجنب الألم الوجودي؛ عالم مغلق ومحدد على الأماكن الأكثر ارتيادا في باريس: السلطات العليا: "المال، الأوبرا، البورصة"، أماكن النزهات والمتع حيث يلتقي "المجتمع الراقي" و"باقي الشعب" "الشانزيليزيه — الطرقات الكبرى — الغابة — حديقة مونصو..".
وختم صالحة: هكذا يرسم لنا الكاتب، هذا المسافر الغامض لوحات باريسية كبيرة تكشف لنا أخلاق ذلك العصر: الموضة في مباريات السيف ومباريات الريف، ثم يجب ألا ننسى أن هناك رمزا باريسيا يجسد في الوقت نفسه القوة والانحطاط.