وقد أكدت الدراسة أن تراجعا كبيرا حدث في معدل القراءة والإطلاع في روسيا الحاضر عن مثيله أيام الاتحاد السوفيتي. ولم يكن التراجع في القراءة فقط بل في ترتيب قائمة المادة المقروئه كذلك، حيث تراجعت مكانة الأدب في قائمة القراءة عند الروس، وسبقته قصص العشق والغرام والروايات البوليسية والفانتازيا. وبلغت نسبة من لا يقتربون من الكتب 35 % من القراء الروس.
ورغم هذا الانحسار مقارنة بأيام السوفييت، إلا أن الدراسة أكدت ارتفاع متوسط عدد الكتب التي يقرأها الروس إلى 4,5 كتاب خلال ثلاثة أشهر، وهو معدل أعلى من متوسط عدد الكتب في عام 2011 والذي كان يقل عن 4 كتب خلال ثلاثة أشهر. وقد اختار 13% من عينات الدراسة قصص الحب التي احتلت المركز الأول في اختيارات القراء. بينما شغلت الكتب والروايات التاريخية المركز الثاني في قائمة اهتمامات القراء ونسبة قراءتها 11% وينتشر الاهتمام بها بين الروس ممن تخطى عمرهم 35 عاما. هذا وتساوى الأدب الروسي والأجنبي في معدل قراءته مع الفانتازيا 9%. أما كتب الأطفال فيقرأها 8 %، تلتها الكتب الدينية 6% والشعر 5%. ولفت نظر الباحثين أن شريحة كبيرة ممن تنعدم القراءة عندهم من بين من تعدت أعمارهم 45 عاما وتقل كثيرا بين أعمار 18 و 24.
يبرز هنا السؤال: لماذا عزف الروس عن قراءة الأدب؟ الإجابة "السنوات العشر". في الحقيقة فإن مرحلة السنوات العشر التي تلت انهيار الاتحاد السوفيتي كان لها أكبر الأثر على الأدب والثقافة بشكل عام. فانسحاب الدولة تماما من المشهد الثقافي وتخليها عن دعم المثقفين والكتاب أدى لتراجع المستوى الأدبي تماما إلا قليل، حيت نجح بعض الكتاب في مقاومة الموت ومواصلة الإبداع في ظروف أقل ما توصف به أنها كارثية. وكان لانتشار الجريمة المنظمة وسيطرة المافيا أثره لدى الكتاب الروس فصارت مغامرات رجال المافيا مادة مثيرة تلقى قبولا لدى القراء مما فتح مجالا واسعا أمام الرويات البوليسية. وبرر الكتاب تدني مستوى كتاباتهم إلى الأوضاع السيئة واضطرارهم إلى الخضوع إلى معايير السوق الجديدة حيث أصبح الربح هو البطل ولا شيء غيره. وبعد أن كان اتحاد الكتاب هو المؤسسة المرموقة التي كان الحصول على شرف عضويته صعب المنال، وكان الكتاب من علية القوم وصفوته، تغير كل شيء، وتوارت هذه المؤسسة في الظلام.
أما دور النشر فقد اغلقت تقريبا كل دور النشر الحكومية التي كانت بالآلاف (حوالي ستة آلاف دار نشر). وصارت دور النشر الخاصة صاحبة الكلمة العليا في سوق الكتاب والثقافة ومن ثم قادرة بشكل أو بآخر على التحكم في المزاج العام والتأثير على وعي وذوق المجتمع. وأما القاريء الروسي فقد عصفت به الظروف وأرهقته الأزمات الطاحنة المتتالية التي مرت بها البلاد. لم يعد لديه الحماس لقراءة مادة جادة واتجه لأدب التسلية حيث يريد الهروب من الواقع والحصول على متعة دون بذل الجهد في التأمل أو التفكير العميق مما يشكل عائقا كبيرا في طريق انتشار القراءة الجادة. ولا يمكن انكار التأثير الكبير لغياب دور الدولة وتخليها عن القاريء على فساد ذائقته، بعد أن كانت ترعى الثقافة والاطلاع بقوة في السابق.
وبنظرة عامة على سوق الكتب في روسيا في النصف الأول من 2014، فقد صدر حوالي 238.342 كتاب وهي نسبة أقل 3.39 % عن نفس الفترة من عام 2013. واحتلت داريا دانتسوفا المركز الأول وفق احصائيات النصف الأول من عام 2014، فيما شغل الكاتب الأميريكي ركس ستاوت المركز الثاني، تليه يوليا شيلوفا في المركز الثالث، ثم الكساندرا مارينينا وتاتيانا بولياكوفا في المركزين الرابع والخامس، وأغلبهم يكتبون الروايات البوليسية. وأصحاب المراكز الثلاثة الأولى من دور النشر بالترتيب دار نشر "براسفشينيا" و"اكسمو" و "أكت".
ومن الجدير بالذكر وجود مشكلة كبيرة في توزيع الكتب في الأقاليم حيث يتم انتاج وتوزيع ما يقرب من 70% من المطبوعات في موسكو وسانت بيطرسبرج وحدهما. وسوق الأقاليم قد تسمح فقط بتداول الكتب المسلية الرخيصة كالروايات البوليسية وقصص الحب، وذلك نظرا لانخفاض الدخول بشكل كبير مقارنة بالمدن الكبرى. وغالبا ما يحصل أهل الأقاليم على الكتب عن طريق المعارف من زائري موسكو أو بيترسبرج، لأن الكتاب في موسكو أو بيترسبرج أرخص بنسبة 50 % عن سعره في الأقاليم، فاذا كان سعر الكتاب في موسكو 150 روبل يصل سعر نفس الكتاب في الاقاليم إلى 300 روبل، وترجع هذه الزيادة إلى العمولة التي يحصل عليها الوسطاء. الحل المقترح لهذه المشكلة إما اصدار طبعات رخيصة للأقاليم أو النشر على الانترنت، والحل الأخير يعوقه عدم توفر بطاقات ائتمان لدى سكان الأقاليم الفقراء، ولكن يمكن حله من خلال الدفع عن طريق التليفون.
وخلال عام 2013 راجت أعمال كتاب مثل سوروكين، فيكتور بيليفين و يفجيني فودلازكين. قدم سوروكين روايته "تيلوريا" التي أثارت جدلا واسعا وقت صدورها حيث تتحدث عن واقع مرير وكابوس ممتد على نحو ساخر عبثي. الكابوس هو انقسام روسيا إلى دويلات صغيرة يحكمها مسحوق "التيلور" الذي يتم استخراجه من سيبريا وتنقله إلى موسكو مركبات تعمل بالبطاطا. وبرز أسم فيكتور بيليفين بروايته "باتمان أبولو" التي تنصب من مصاصي الدماء حكاما لهذا العالم. وقد حققت هذه الرواية رواجا واسعا خلال العام بين جمهور القراء. وقد حازت رواية "لافر" للكاتب يفجيني فودلازكين على جائزة "الكتاب الكبير" بعد أن ترشحت لأكثر من جائزة منها البوكر الروسية. والرواية فانتازيا من الماضي الروسي تحكي عن طبيب من القرن الخامس عشر نال هدية من أحد مرضاه.
ونظرا لأهمية الأمر، فقد حظى الأدب الروسي مؤخرا باهتمام السلطات في روسيا في أعلى مستوياتها، حيث جرت عدة اجتماعات داخل مجلس الدوما الروسي لمناقشة حال الكتاب والقراءة والأدب في روسيا اليوم وفق ما صرحت به لودميلا شفيتسوفا نائي رئيس المجلس في مارس الماضي. واجتمع الرئيس الروسي بوتين بعدد كبير من الكتاب والناشرين والشعراء لمناقشة هذا الأمر وكيفية الخروج من أزمة الكتب والقراءة والأدب. وأصدر الرئيس بوتين قرارا باعتبار عام 2015 "عام الأدب والقراءة في روسيا". ويهدف القرار إلى تشجيع قراءة الأدب الروسي وإعادته إلى مكانته المحلية والعالمية ووضع الأدب واللغة الروسية كدعائم لنشر الثقافة الروسية. وقد أسفرت المشاورات بين السلطات والكتاب عن اقتراح عدة فعاليات للوصول للأهداف المرجوة منها "أوراسيا الأدبية"، "خريطة روسيا الأدبية"، "عاصمة روسيا الأدبية"، المشروع التجريبي"اليوم العالمي للكتاب"، "ليلة المكتبات" ، "الصيف مع الكتاب". ومن الأشياء ذات الدلالة الكبيرة حضور الاجتماع بعض أحفاد كتاب روسيا العظام مثل دستايافسكي، ليرمنتوف وتالستوي. ومن المقترحات الهامة التي اسفر عنها الاجتماع ببوتين مقترح إنشاء رابطة جديدة للكتاب.
وتحرك عشاق الأدب الروسي في سبيل إحياء الأدب الكلاسيكي. فتم انشاء موقع خاص لأعمال الكاتب الروسي ليف تالستوي به كافة أعماله بحوالي أربعين لغة مختلفة في محاولة للتفاعل من الأجيال الجديدة. وفي محاولة نحو حماية الكتاب الروسي من سيطرة رأس المال والحفاظ على الخط الرئيسي للمدرسة الأدبية الروسية، رصدت جوائز عدة في سبيل تشجيع ودعم الكتاب الروس منها جائزة بيلكين الأدبية وجوائز أخرى قد تصل إلى 50 ألف دولار.