شهدت منطقة شمالي قطاع غزة، في هذا اليوم، قصفا جويا ومدفعيا عنيفا جدا، ودون سابق إنذار، واستيقظ السكان على صوت مدافع الدبابات التي تطلق نيرانها من بين عتبات المنازل، لتبدأ معها قصص ومأس جديدة لفقدان الأحبة والنزوح القسري الذي بات يؤرق الفلسطينيين، بحسب شهود عيان لـ"سبوتنيك"، وسط صمت دولي لم يعهد له مثيل التاريخ الحديث الذي تغنى لعشرات السنين بقصص زائفة عن حق تقرير المصير وحرية الشعوب.
خروج من تحت الأنقاض ونزوح إلى المجهول
روت النازحة "د" في حديثها مع "سبوتنيك"، قصتها المؤلمة التي عاشتها في تلك اللحظة، حيث أكدت أنه في الليلة نفسها بدأ الاجتياح البري للمنطقة بشكل فجائي دون تحذير مسبق أو إبلاغ السكان بالإخلاء. ونجت "د" بأعجوبة هي وعائلتها من تحت أنقاض منزلهم المكون من 6 طوابق، الذي هُدم فوق رؤوسهم.
وقالت "د": "بالنسبة لنا، كسكان شمال قطاع غزة، لا يوجد أي طريق للنزوح إلى غرب غزة إلا طريق "أو شرخ". ولكن سرعان ما تقدمت الآليات العسكرية وانتشرت طائرات الكوادكابتر في هذه المنطقة. وبذلك، منعت المواطنين من النزوح، وكانت تطلق النيران على أي شيء يتحرك في المنطقة".
النزوح من شمال قطاع غزة مع استمرار العملية العسكرية في المنطقة
© Sputnik
منشورات إلى "معابر الموت"
وأوضحت "د" سبب بقائهم في شمال القطاع منذ بداية الحرب على غزة: "وبعد أن أغلق الجيش الإسرائيلي الطريق الوحيد للنجاة لسكان شمال قطاع غزة، رموا علينا مناشير تفيد بالتوجه عبر الممر الآمن "صلاح الدين" والتوجه إلى "مواصي خان يونس". لم يكن لدى الموطانين أي إقبال على النزوح إلى وسط القطاع. لكن حتى المواطنين الذين أقبلوا على النزوح، كان الطيران الحربي الإسرائيلي يطلق النار على النازحين. وبذلك، لم يتركوا لنا أي سبيل للنجاة".
النزوح من شمال قطاع غزة مع استمرار العملية العسكرية في المنطقة
© Sputnik
وتستذكر "د" قصتها المؤلمة التي بدأت مع قرار النزوح، قائلة:
"نحن كنا ضمن أولئك الذين رفضوا تماما فكرة النزوح عبر "صلاح الدين". واخترنا البقاء في منزلنا بمنطقة كمال عدوان، حيث قضينا 14 يوما في المنزل. لقد كانت أياما صعبة جدا علينا. قصف مدفعي وجوي مستمر، وانتشرت طائرات الأباتشي والكوادكابتر، التي كانت في أغلب الوقت تطلق النار على المنازل ونحن بداخلها. وحتى يوم 16 أكتوبر، تقدمت الآليات العسكرية حتى منطقة "الشيخ زايد"، وشرعت في القصف على بعد مسافة معينة لكي نخلي منازلنا. وبالفعل، اضطررنا حينها لنترك بيتنا والتوجه إلى منطقة "مشروع بيت لاهيا"، ومكثنا هناك لمدة 14 يوما، وكان الوضع سيئا جدا على خلفية المجازر المستمرة التي كانت تُرتكب، والحزامات النارية. وفي صباح 23 أكتوبر، تقدمت الآليات العسكرية عبر طريق "الفاخورة" لمنطقة "مشروع بيت لاهيا"، وشرعت في قصف الشوارع والمشروع وأماكن تواجد النازحين بواسطة "إف-16". وبعد هذه اللحظة قررنا النزوح عبر "صلاح الدين". فاجتمع آلاف النازحين وتوجهنا جميعا سيرا نحو منطقة مستشفى الإندونيسي".
النزوح من شمال قطاع غزة مع استمرار العملية العسكرية في المنطقة
© Sputnik
دبابات بانتظار النازحين وفصل بين الرجال والنساء
وبعد معاناة وصول النازحين إلى الموقع الذي حدده لهم الجيش الإسرائيلي، وجدوا أن الدبابات كانت تنتظرهم تحديدا في منطقة "الشيخ زايد". وهنا بدأت قصة نزوح أخرى، أمرّ من الأولى.
وذكرت "د" في وصف ما شاهدته من رحلة نزوح شاقة على النازحين:
"هناك التقينا بأول دبابة لأول مرة. وبدأ الجيش الإسرائيلي ينادي علينا بالمكبرات الصوتية بأن نتوجه إلى المدراس المتواجدة في هذه المنطقة. ومن ثم نادوا على الرجال وطلبوا من الشباب فوق سن 16 عاما أن يتوجهوا إلى مدرسة "الكويت" ويجلسوا على ركبهم، بينما النساء والأطفال يكملوا طريقهم سيرا عبر "صلاح الدين" ومن هناك يتوجهوا إلى خان نيوس". كان الطريق شاقا جدا. الطريق كان عبارة عن جبال رملية، وصعبة جدا على كبار السن والأطفال والمرضى. وبسبب صعوبة الطريق والإرهاق، الذي كان أشبه بطريق صحراوي بحت، بدأ النازحون في التخلي عن بعض أغراضهم، لقد كنا محاطين بالدبابات من جميع الاتجاهات، وطائرات الكوادكابتر تحلق فوق رؤوسنا".
النزوح من شمال قطاع غزة مع استمرار العملية العسكرية في المنطقة
© Sputnik
مسير البؤساء على وقع دخان الدبابات
وعن مشهد "أهوال شمال القطاع" ومعاملة جنود الجيش الإسرائيلي لأهالي النازحين من شمال قطاع غزة، قالت "د":
"تعرضنا للذل والإهانة من قبل الجنود الإسرائيليين، سواء بالمعاملة أو الشتم. عندما كنا نسير كانت عجلات الدبابات تتحرك جوارنا وتنثر الرمال علينا، ودبابات تسرع باتجاهنا وتحاول أن تدهس الناس، ومن يحاول أن يتوقف أو يستريح قليلا تتوجه مدفعية الدبابة نحو الشخص مجبرة إياه في الاستمرار بالسير. وكل هذا يحدث بينما تطاير القذائف من حولنا من مختلف الاتجاهات والكوادكابتر تطلق النار علينا. وبعد عناء طويل تمكنا من الوصول إلى مفترق "زمّو"، حيث كانت تقف آخر دبابة، وفارقتنا طائرة الكوادكابتر. ومن هناك توجهنا إلى غرب غزة بدلا من الوسطى".
وأضافت قائلة: "كان الجنود على الدبابات يأكلون الشيبس والشوكولاتة، والأطفال كانوا ينظرون إليهم بعين الحرمان، لأن هذه الأشياء غير موجودة عندنا. فأصبح الجنود يرموننا بألفاظ نابية، ويقولون لنا: "يلا يا شعب جعان"، ويرمون علينا ما تبقى من أوراق الشيبس والقمامة".
وأشارت "د" إلى أنها بقيت لوحدها مع والدتها في نهاية رحلة النزوح هذه، بعد أن قام الجيش الإسرائيلي بأسر والدها واثنين من إخوتها. فاضطروا إلى أخذ حقائبهم أيضا: فكان معهم 3 حقائب سفر و5 حقائب ظهر. فكانت الحركة بالنسبة لهن صعبة جدا. حملت "د" حقيبة سفر في يدها، وحقيبة ظهر على ظهرها، وحقيبة أخرى على كتفها، وبينما كانت تصعد الكثبان الرملية سقطت أرضا، فلم تتمكن من الوقوف. وهنا، في هذه اللحظة، سرعان ما تقدمت الدبابة باتجاهها وكادت أن تدهسها لولا أن "د" تخلت عن كل الحقائب، "وطلعت بروحي والدبابة هرست الحقائب. وكان من المستحيل أن يساعدك أحد في مثل هذه المواقف. فالجميع يحاول النجاة بروحه. ومن يُقتل يُترك على الأرض ويُكمل طريقه".
وفي ختام الحديث، أضافت "د": "نعم، لقد تمكنا من الخروج والتوجه نحو منطقة "الشيخ رضوان". هذه ليست منطقة آمنة، ولكنها ليست منطقة عسكرية مغلقة. ووضعنا أفضل من غيرنا، ولكن يوجد آلاف العائلات محاصرة في منطقة شمال القطاع، ولا تملك أي سبل للعيش، ولا مساعدات غذائية تدخل المكان، ومحطات تحلية المياه لا تعمل، وطواقم الدفاع المدني توقفت عن العمل، وجميع المستشفيات خرجت عن الخدمة، والتغطية الصحفية منعدمة، وتُمارس عليهم الإبادة الجماعية خلال حديثنا هذا".
وأفادت "د" لـ"سبوتنيك"، أنه لا يوجد صور أو تسجيل فيديو لتوثيق ما كان يجري، إذا كان ممنوعا، وقد يعرّض النازح للخطر، من تحطيم هاتفه المحمول أو اعتقاله أو إطلاق النار عليه.