وأشار خبراء إلى أن الظروف الراهنة التي تمر بها البلاد، بما في ذلك الانقسام السياسي وضعف البنية المؤسسية، تجعل من الصعب تحقيق محاسبة حقيقية وشاملة، وأكدوا أن معالجة هذه القضايا بشكل جذري تتطلب إصلاحًا سياسيًا عميقًا وبناء مؤسسات رقابية مستقلة قادرة على أداء دورها بفعالية.
تفاقم الفساد
أكد المحلل والأكاديمي الليبي فوزي الحداد، أن "الفساد في ليبيا، لن يتوقف في المرحلة الحالية طالما استمرت الأوضاع السياسية الراهنة"، مشيرًا إلى أن "وجود حكومتين ومؤسسات متوازية منتهية الصلاحية يخلق بيئة خصبة لاستمرار الفساد"، وأوضح أن "هذا الوضع لن ينتهي قريبًا في ظل غياب إرادة حقيقية لإصلاح المشهد السياسي".
وقال الحداد في تصريحات لـ"سبوتنيك": "من الصعب إحالة مرتكبي الفساد في ليبيا للمحاسبة، لأن الكثير منهم هم المسؤولون السياسيون الذين يتحكمون في المليارات من الميزانية، ولا توجد أي جهة فعالة لمحاسبتهم".
وأضاف أن "الوضع الحالي يتيح الإفلات التام من المحاسبة، مما يعمّق المشكلة ويعزز الفساد، وأشار الحداد إلى أن المؤسسات الرقابية في ليبيا تفتقر إلى الاستقلالية، إذ إن رؤساء هذه المؤسسات تم تعيينهم من قبل الطبقة السياسية التي ترعى الفساد المالي بشكل مباشر أو غير مباشر".
وقال: "غياب أفق لإزاحة المسؤولين الحاليين يجعل من الصعب كسر دائرة المصالح المشتركة بينهم وبين المؤسسات الرقابية"، وأوضح أن "ليبيا شهدت إهدارا ماليا ضخما منذ عام 2011، إذ قُدّرت الأموال المهدرة بأكثر من 800 مليار دولار، سواء في الداخل أو الخارج، دون وجود أي أفق حقيقي لمعرفة مصير هذه المبالغ".
وأضاف: "ميزانية العام الماضي أُقرت للحكومتين بشكل منفصل، وهو ما قد يتكرر في المستقبل، مما يؤدي إلى مزيد من الهدر المالي دون وجود سياسات رقابية أو محاسبة".
ورغم قتامة المشهد، أشاد الحداد بتحركات النائب العام الليبي، التي وصفها بأنها "محاولات جيدة لتحريك المياه الراكدة في ملف الفساد المالي".
وأردف: "النائب العام قام بمحاسبة بعض المسؤولين الفاسدين السابقين، لكنه لم يتمكن من محاسبة أي مسؤول حالي في السلطة، لأن هؤلاء ما زالوا يتمتعون بالحماية السياسية".
فساد غير مشهود
من جانبه، شدد المحلل السياسي إدريس احميد، على أن "الفساد في ليبيا بات سمة بارزة للمشهد السياسي والاجتماعي"، مشيرًا إلى أن "أشكال الفساد المختلفة، بما فيها الفساد الأخلاقي والمؤسسي، تعيق بناء الدولة الليبية وتعطل جهود التحول إلى نظام دستوري يقوم على الشفافية والتداول السلمي للسلطة".
وأشار إلى أن "معالجة الفساد تتطلب إصلاحا سياسيا جذريا، وإعادة بناء المؤسسات الرقابية على أسس استقلالية، إضافة إلى تفعيل دور القضاء والشارع الليبي للضغط من أجل محاسبة شاملة تعيد الثقة للمواطن الليبي".
وأضاف احميد في تصريحات لـ"سبوتنيك" أن "ملف الفساد في ليبيا أصبح ظاهرا على أعلى المستويات، يمارس في وضح النهار وأمام أنظار الجميع، سواء المواطن الليبي أو وسائل الإعلام، في ظل غياب دولة بمؤسساتها وافتقارها للرقابة الحقيقية".
وأكد أن "الفساد بعد عام 2011، تجاوز كل ما عرفته البلاد في العقود الماضية"، مشيرًا إلى أن "استمراره ناتج عن غياب الدولة والانتخابات والدستور، بالإضافة إلى استفراد شخصيات محددة بالمشهد السياسي".
كما أشار إلى أن "الفساد بات أداة يُمارسها الكثيرون لتحقيق مصالح شخصية أو للحصول على المناصب، في ظل تهميش الكفاءات وعدم الاعتماد على الأشخاص المؤهلين".
وأوضح احميد أن "أحد أبرز أسباب الأزمة في ليبيا هو التضخم الكبير في معدلات الفساد، إلى جانب إهدار مبالغ طائلة كان يمكن توجيهها نحو التنمية ودعم فرص العمل وفتح آفاق اقتصادية جديدة"، واعتبر أن "الفساد هو العامل الأساسي الذي يعيق بناء مؤسسات الدولة الحقيقية حتى الآن".
وقال احميد: "على الرغم من وجود هيئة مختصة بمكافحة الفساد، إلا أن انقساماتها وعجزها عن ممارسة دورها بشكل فعّال أضعفت جهودها"، مشيرا إلى أن "العديد من المؤسسات الأخرى لم تعمل بالشكل المطلوب، باستثناء مكتب النائب العام، الذي يبذل جهودا كبيرة لمحاربة الفساد، رغم ضخامة التحديات".
وأكد المحلل السياسي الليبي أن "حجم الفساد الحالي يتطلب دورا فعالا من مؤسسات مستقرة، وإصلاحات دستورية، وتعزيز الشفافية، إلى جانب تفعيل دور الشارع الليبي في الضغط لمكافحة هذه الظاهرة".
كما شدد على "ضرورة محاسبة المسؤولين الذين تولوا مناصب الدولة"، لافتًا إلى "غياب المحاسبة الفعلية، رغم وجود شبهات فساد تحيط ببعض الشخصيات التي تقلدت مناصب رفيعة في البلاد".
وأكد على أن "القضاء على الفساد هو شرط أساسي لإعادة بناء الدولة الليبية"، داعيا إلى "تبني إصلاحات شاملة تُعيد الثقة للمواطن وتضع ليبيا على مسار التنمية والاستقرار".
أطماع محلية وخارجية
رجّح المحلل السياسي الليبي نصر الله السعيطي، أن "تفشي الفساد في ليبيا خلال الفترة الأخيرة يعود إلى عدة عوامل مترابطة، أبرزها غياب الاستقرار السياسي وعدم وجود حكومة موحدة، تدير شؤون البلاد بفعالية".
وأشار إلى أن "عدم وجود أجهزة رقابية موحدة وضعف سيطرة الجهات التشريعية على الأموال الليبية، المصرف المركزي، وإيرادات النفط، بالإضافة إلى ضعف الرقابة على مؤسسة النفط، جميعها عوامل تفتح الباب أمام المسؤولين لممارسة الفساد دون رادع".
وقال السعيطي في تصريحات لـ"سبوتنيك"، إن "استغلال النفوس الضعيفة وغياب الآليات الإدارية والتنظيمية لصرف الأموال الليبية ساهم بشكل كبير في استمرار ملف الفساد، كما أن الإنفاق العام العشوائي وعدم وجود ضوابط ساعد في تفاقم الأزمة، خاصة مع تورط أطراف خارجية تستغل ضعف البنية السياسية في ليبيا".
وأضاف أن "ملفات مثل الرشوة والمحسوبية وتعويضات الجرحى استُغلت من قبل الفاسدين لتمرير صفقات فساد كبرى، إلى جانب تورط شركات نفطية مشبوهة مدعومة من أطراف دولية"، واعتبر أن "هذا التورط الخارجي يزيد من صعوبة معالجة الفساد سواء في قطاع النفط أو غيره من القطاعات الحيوية".
وأوضح السعيطي أن "الحكومات المتعاقبة على السلطة في ليبيا لعبت دورا كبيرا في إهدار المال العام وصرفه في غير محله، من خلال الإنفاق المفرط على التشكيلات المسلحة، أو استغلال ملفات الصحة والظروف الطارئة لتبديد الأموال"، مؤكدا أن هذه الملفات تُدار من قبل الفاسدين بدعم من بعض السياسيين".
وأشار السعيطي إلى أن "ميزانيات المؤسسات الليبية لا تزال غير معروفة ولم تُغلق بشكل صحيح، مما يسهل استمرار هدر الأموال وانتشار الفساد، كما أن ملف الاستثمارات الليبية في الخارج جذب أطماع بعض الدول في الأرصدة والاستثمارات الليبية، مستغلة ضعف الدولة وعدم قدرتها على حماية مصالحها المالية".
وشدد على أن "الفاسدين في ليبيا غالبا ما يكونون من أصحاب النفوذ السياسي وسلطة القرار، مما يجعل محاسبتهم أمرا صعبا"، وأوضح أن "الأجهزة الرقابية في البلاد تعمل ضمن إطار سياسي محدود، إذ يتم بسهولة تغيير مسؤوليها بما يخدم مصالح الطبقة السياسية المتنفذة".
وقال: "لن تتحقق المحاسبة الحقيقية إلا في ظل وجود دولة مستقرة تحكمها دستور قوي ومؤسسات فعالة"، مؤكدا بأن "الأوضاع الحالية تجعل من محاسبة المسؤولين الفاسدين أمرا شبه مستحيل"، مشددًا على "ضرورة تحقيق الاستقرار السياسي لمعرفة إيرادات الدولة وأوجه إنفاقها بشكل شفاف، لضمان وقف الفساد المستشري".