تقول الأسطورة السورية إنّ الإله «حُدُد» كان يرسل إلى الدمشقيين برقاً يضرب قاسيون، فيترك في ترابه آثاراً هي عبارة عن نترات حديدية، كان يخرج السيوفيون (صناع السيوف) ليستخرجوها من ترابه، وليبدؤوا أولى خطوات صناعة هذا السيف الخالد، حيث إنّ نترات الحديد، التي يتركها البرق في تراب الجبل، كانت تشكّل العنصر الأول في صناعة السيف هذا، فتُجبل بمزيج لا يعرفه إلا شيخ الكار، فتخرج العجينة التي يُشكّل منها السيف، وتوضع في الأتون حتى تنال منها النار، فتصبح مطواعة بيدي الصانع، وبعدها يدقّ ذلك الحديد مرات ومرات حتى يرقّ ويتّخذ الشكل المطلوب، ومن ثمّ يُجلخ حتى يصبح قادراً على شقّ الهواء، بحسب ما تقوله الأسطورة، ومن ثمَّ يُلمّع وتُنقش عليه كلمات مناجاة للإله "حُدُد"، كالصلاة التي تقول: "حُدُد، لم يخسر حربه كلّ مَن حمل سيفك"، وأخرى تقول: "إله الحرب أعِنّا ليفتك سيفُك بالأعداء"، وبعد دخول الإسلام إلى دمشق، صارت الآيات القرآنية هي التي تُنقش على السيف.
لقد حيّر سرّ صناعة هذا السيف كلّ صانعي السيوف في أوروبا، حيث حاولوا، جاهدين على مر العصور، اكتشاف كيف يصنع، والمواد الداخلة في صناعته، إلا أنّ كلّ تلك المحاولات باءت بالفشل، وظلّ السر مقتصراً على صناع دمشق، وأثناء الحملة الصليبية على
يقول فياض السيوفي أحد أشهر صناع السيوف الدمشقية إن تسمية عائلتي بالسيوفي نسبة إلى عمل أجدادي بهذه المهنة التي تعلمتها عن طريق والدي الذي ورثها بدوره من جدي، موضحا أن عائلته هي الوحيدة في مدينة دمشق التي تصنع السيوف، وتقوم بتنزيل وتطعيم الذهب والفضة عليها، حيث تحولت هذه الصناعة في بداية القرن الماضي من صناعة حربية إلى قطع تراثية يسعى الأغنياء والسياح لاقتنائها.
"منذ نعومة أظفاري، اعتاد أبي اصطحابي إلى ورشته لأقف هناك أراقبه لساعات كيف يصنع السيوف، إلى جانب جدي الذي كان يشرف على وضع الحديد في بيت النار، وعمّي الذي كان يقوم بدقّها بمطرقته حتى يستوى متن السيف، كنت أجد متعة كبيرة في مشاهدة كيف تصنع تلك المعجزة، وتتزاحم في رأسي كلّ القصص التي كان يقصّها جدي عليّ عن تاريخ هذا السيف الرائع الذي لا يُكسر، ويلتوي كالأفعى ثم يعود إلى حالته السابقة"، وأضاف فياض: "إنّ الشيء العجيب في هذا السيف، الذي حيّر الشعوب لقرون طويلة، هو أنّ تفاعل المعادن والمواد في نصل السيف الدمشقي تجعل خطوطاً متموّجة تظهر على سطح النصل، فتبدو وكأنّ شرائط معدنية قد رُصّت جنباً إلى جنب، وكلّ شريط يحمل تموجاً مختلفاً عن الآخر، إلا أنّ ذلك لم يكن سوى نتيجة للتفاعل الغريب لتلك المعادن والمواد".
من جهته يقول الدكتور فيصل العبد الله، الأستاذ في قسم التاريخ بجامعة دمشق، إن هذه الحرفة اليدوية أخذت بالتراجع منذ القرن الخامس الميلادي، عندما اجتاح القائد المغولي تيمورلنك دمشق وأخذ معه إلى سمرقند نحو 15 ألفا من أشهر حرفيي صناعة السيوف، ثم
وحول تاريخ البدء بصناعة السيف الدمشقي وسمعته الأسطورية، يؤكد العبد الله أنها تعود إلى القرن الثامن الميلادي، مضيفا أن سمعة السيف الأسطورية تكونت أثناء الحملات الصليبية، عندما وجد الأوربيون أنفسَهم أمام مدافعين عن أراضيهم مسلحين بسيوف أكثر تقدماً وأقوى وأحدّ من سيوفهم البدائية العريضة.
يقول الأستاذ *John D. Verhoeven: في عام 1924، تبرع موزر. H (وهو جامع تحف أوروبي) بأربعة سيوف دمشقية لعالِم المعادن تستشوكي.B الذي قطّعها لإجراء دراسات تحليلية على تركيبها الكيميائي وبنيتها الميكروية. ثم نُقِلَت القطع المتبقية إلى متحف بيرن في سويسرا، الذي قام بدوره مؤخرا بإهدائي عينات منها لدراستها أيضا.
بفحص هذه العينات الثمينة، تبين لي أنها تحتوي على شرائط من جسيمات كربيد الحديد Fe3C المعروف باسم سمنتيت cementite. هذه الجسيمات مستديرة الشكل ومُحكمة النسق، يراوح قطرها عموما ما بين 6 و 9 ميكرونات، وتتباعد شرائط الجسيمات بعضها عن بعض بمقدار 30 إلى 70 ميكرونا، وهي مرصوفة بشكل مواز لسطح السيف، بما يشبه حبات قمح داخل لوح خشبي. فلدى معاملة السيف بالحمض تظهر الكربيدات على شكل شرائط بيضاء ضمن قالب فولاذي أدكن اللون. فكما حلقات النمو المتموجة في شجرة تولِّد الأنماط الملتفة المميزة على الخشب المقطوع، كذلك فإن تموجات شرائط الكربيد تفسر وجود أشكال الوشي (النقش) الدمشقية على سطوح نصال السيوف. ولما كانت جسيمات الكربيد بالغة الصلادة، يُعتقد أن اجتماع هذه الشرائط الفولاذية القاسية ضمن قالب فولاذي أكثر لينا ومرونة هو الذي يسبغ على السيوف الدمشقية صلابة في حدها ومرونة في بنيتها في آن معا.
لقد توصلنا إلى أن الشرائط (الخطوط المتموجة) تتولد من الانعزال الميكروي للعناصر الشائبة (الڤاناديوم والموليبدنيوم وغيرها)، وهذا يؤدي إلى الانعزال الميكروي لجسيمات السمنتيت. ولاختبار هذه النتيجة أجرينا تجارب تثبت إمكان التخلص من الخطوط المتموجة عن طريق التخلص من الانعزال الميكروي للذرات الشائبة. فأخذنا قطعا صغيرة من سيوف قديمة وحديثة مخططة، وعرّضناها للتسخين إلى نحو 50 درجة سيلزية فوق درجة Acm، فانحلت عند درجة الحرارة هذه جسيمات كربيد الحديد كلها في الأوستنيت. قمنا بعد ذلك بتسقية النصال بالماء، فتولَّد من التبريد المفاجئ ما يسمى فولاذ مرحلة المارتنزيت martensite phase، وهو فولاذ صلد جدا، ليس فيه أي جسيمات كربيدية. وباختفاء جسيمات الكربيد، لوحظ اختفاء الخطوط المتموجة الناشئة عنها كذلك.
ولإعادة تكوين جسيمات السمنتيت، أخضعنا النصال إلى عدة دورات تسخين حتى الدرجة 50 سيلزية تحت درجة الحرارة Acm ثم التبريد البطيء بالهواء، فأعطت هذه العملية جسيمات السمنتيت الزمن اللازم لتنمو من جديد وتنعزل. وقد وجدنا، بعد الدورة الأولى
أجريتُ أيضا تجارب أخرى استبعدتُ فيها جملة العناصر الشائبة، فوجدت ـ حتى بعد دورات كثيرة من التسخين والتبريد البطيء ـ أن السبائك لم تولِّد مجموعات من جسيمات الكربيد أو خطوط متموجة. في المقابل، عندما أضفتُ العناصر الشائبة إلى السبيكة نفسها، وطبقت عليها دورات التسخين والتبريد، ظهرت الخطوط المتموجة من جديد. إن سيوف موزر الأربعة القديمة التي أجرينا عليها دراساتنا احتوت كلها على شوائب الڤاناديوم التي يرجَّح أنها السبب في تكون الخطوط المتموجة في تلك السيوف.
لو أن تبدلات التجارة العالمية أتاحت وصول سبائك حديد من الهند خالية من العناصر الشائبة اللازمة، لغدا صنّاع السيوف (وأبناؤهم من بعدهم) غير قادرين على ابتداع النقوش الجميلة على سيوفهم، من دون أن يدركوا بالضرورة سبب ذلك. ولأوشك سر السيف الدمشقي الأسطوري أن يضيع لا محالة بعد جيل أو جيلين على الأكثر. ولكن بفضل اجتماع العلم والفن معا أمكن إماطة اللثام عن هذا السر القديم.
*John D. Verhoeven — أستاذ فخري بارز في الهندسة وعلم المواد في جامعة ولاية أيوا الأمريكية. انصب جل اهتمامه على دراسة سر السيوف الدمشقية المصنوعة من الفولاذ الهندي (ووتز) منذ كان طالب دراسات عليا في جامعة ميتشيغان. في عام 1982 بدأ بإجراء تجاربه العلمية لإعادة تكوين السيف الدمشقي القديم. تطور عمله ـ الذي كان هواية في المقام الأول ـ لينحو فيما بعد منحى جادا، ولا سيما بعد أن عمل بالتعاون مع الحداد البارع (H.A.پندري) على مدى سنوات عديدة.