تحوّل جديد في الرؤية الاستراتيجية لحل القضية الكردية في تركيا مهّد له زعيم حزب "العمال الكردستاني"، عبد الله أوجلان، المعتقل في سجن جزيرة "إميرلي" قبالة اسطنبول، بدعوة الحزب إلى عقد مؤتمر عام في الربيع المقبل، بمشاركة مقاتلي الحزب، لاتخاذ قرار بإلقاء السلاح والتحول إلى العمل السياسي، ووضع نهاية لأربعة عقود من المواجهات المسلحة مع الجيش التركي.
قيادة الحزب وصفت، في بيان صادر عنها، دعوة أوجلان بـ"التاريخية"، وقابلتها أنقرة بترحيب حار، إلا أن تحويل الدعوة إلى واقع ملموس سيخضع لعملية تجاذب ومنازلة سياسية قوية ومتبادلة بين الحزب والحكومة التركية، لتحديد الأرضية الجيدة التي ستقوم عليها العلاقة بينهما لاحقاً، وتقديم ضمانات سياسية وقانونية ودستورية، لتطبيق الديمقراطية وحل المسألة الكردية في تركيا.
وتشكِّل الانتخابات التشريعية، المقرر إجراؤها، في السابع من حزيران (يونيو) المقبل، فرصة مواتية كي تفرج أنقرة عن حزمة من التوجهات في هذا الصدد، كبوادر حسن نية، وفقاً لما تطالب به قيادة حزب "العمال الكردستاني"، التي أعربت عن خشيتها من أن تستغل الدعوة من قبل حزب "العدالة والتنمية" الحاكم في تركيا لأغراض انتخابية، تسوّق خطوة أوجلان كتراجع انتزعته أنقرة بضغط جيشها على مقاتلي الحزب.
بالمقابل ستتعامل الحكومة التركية بحذر مع المفاعيل العملية لدعوة أوجلان، رغم الترحيب المبدئي بها، فهي تريد أن تراقب على مدى التزام قيادة حزب "العمال الكردستاني" بإلقاء السلاح، وهذا يفترض، من وجهة نظر أنقرة، أن يمر الحزب بمرحلة تأهيل، طويلة نسبياً، للانتقال من العمل المسلح إلى السياسي، وإغلاق ملفات الماضي.
يضاف إلى ما سبق، أن خبراء في الشأن الكردي يطرحون تساؤلات حول قوة تأثير أوجلان في صفوف حزبه، بعد اعتقاله، وبروز قيادات أصبحت نافذة في تقرير سياسات الحزب وتوجهاته الاستراتيجية، وترى أن أنقرة لم تلتزم كما يجب بعملية السلام الشاملة، التي دعا لها أوجلان من المعتقل، في 21 آذار (مارس) 2013، من خلال "خريطة طريق" تشمل وقف إطلاق النار، وسحب مقاتلي الحزب خارج الأراضي التركية إلى إقليم كردستان في شمال العراق، والحوار مع حكومة أردوغان، وتشكيل لجان تشريعية تضع تشريعات جديدة، منشأنها تعزيز الديمقراطية، ومنح الأكراد إدارة ذاتية على أساس المواطنة، والاعتراف بهويتهم القومية، من لغة، وثقافة، وخصوصية اجتماعية… الخ.
وفي تعقيبها على دعوة أوجلان الأخيرة، رهنت قيادة حزب "العمال الكردستاني" عقد مؤتمر عام للحزب بتنفيذ أنقرة لاتفاقية السلام، ما يعني إلقاء الكرة في ملعب الحكومة التركية لاتخاذ خطوات ملموسة، حتى لا تخرج عملية السلام عن مسارها، وضمنياً يهدف هذا الشرط إلى سحب ورقة الدعوة من دائرة إمكانية التوظيف في بازار الانتخابات التشريعية التركية القادمة، ويؤكد أيضاً على أن القرار في النهاية لن يتخذه أوجلان، الذي تراجع نفوذه كثيراً داخل حزبه.
ويشار هنا إلى أن حزب "العمال الكردستاني" سبق وأن علَّق تنفيذ مبادرة أوجلان عام 2013، بسحب مقاتليه من الأراضي التركية، وأوقف المحادثات مع أنقرة، متهماً إياها بعدم الوفاء بالتزاماتها تجاه عملية المصالحة وتطبيق الديمقراطية.
عقبات أخرى على الطريق، من شأنها أن تعترض الأخذ بدعوة أوجلان، فالوجود العسكري لمقاتلي الحزب لا يقتصر على الأراضي التركية، بل يمتد إلى إقليم كردستان في شمال العراق، وفي مناطق شمال سورية، والدعوة لإلقاء السلاح لا تسري على مقاتلي الحزب في هاتين المنطقتين، مما سيجعل من هذه الجزئية المهمة فتيلاً قد يفجر أي اتفاق في المستقبل، فالحكومة التركية، التي ربما تجد من مصلحتها تكتيكياً تجاوزها في المرحلة الحالية، لن تقبل أن تبقى خارج التسوية النهائية، لاسيما على ضوء مواقف أنقرة الرافضة لقيام أي شكل من أشكال كيانات كردية المستقلة في العراق أو سورية. ومن هذه الخلفية رفضت أنقرة تقديم أي دعم لوجستي للمقاتلين الأكراد في معركة مدينة كوباني، التي كان يسيطر عليها تنظيم "داعش"، وأجبر على الانسحاب منها الشهر الماضي.
ودون التقليل من أهمية دعوة أوجلان لإلقاء السلاح، والانتقال من ساحات القتال إلى معترك السياسية، إن إحراز تقدم حاسم في حل المسألة الكردية في تركيا مازال معقداً، وسيخوض حزب "العمال الكردستاني" والحكومة التركية منازلة سياسية لاختبار الإرادات، سيحاول كل طرف أن ينتزع في خضمها تنازلات من الطرف الآخر، لكن بالتأكيد تبقى خطوة أوجلان في الاتجاه الإيجابي.
(المقالة تعبر عن رأي صاحبها)