بعد طول أخذ ورد، وسيل من المطالبات لم ينقطع منذ سنوات، أقر المجلس المركزي الفلسطيني، في دورته الأخيرة التي انعقدت هذا الأسبوع، وقف التنسيق بين الأجهزة الأمنية الفلسطينية ونظيرتها الإسرائيلية، ومقاطعة البضائع الإسرائيلية، وتكليف اللجنة التنفيذية بمتابعة ملف التوجه إلى "المحكمة الجنائية الدولية"، لرفع شكاوى أمامها ضد الاستيطان وجرائم الحرب الإسرائيلية المرتكبة في الحرب على غزة، والدعوة إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية للسلطة، وتفعيل جهود المصالحة الفلسطينية، والطلب من الأمم المتحدة بالعمل على تطبيق القرارات الدولة ذات الصلة بالصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، كأساس لأي تسوية سياسية شاملة ومتوازنة، يكون التوصل إليها بسقف زمني محدد، وتحميل إسرائيل مسؤولياتها القانونية والالتزامات المترتبة عليها كدولة احتلال.
كما رفض المجلس المركزي أي تسوية مرحلية طويلة الأمد، تقوم على أساس دولة فلسطينية بحدود مؤقتة، أو الإبقاء على المستوطنات أو قوات عسكرية إسرائيلية على أراضي الدولة الفلسطينية، ورفض أيضاً الاعتراف بما يسمى بـ"يهودية دولة إسرائيل".
ومن شأن هذه القرارات أن تحدث تغيراً دراماتيكياً في العلاقات بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، والعلاقات الداخلية الفلسطينية، في حال تم الأخذ بالقرارات وتطبيقها، بل سيكون الفلسطينيون أمام بلورة استراتيجية جديدة، تجاه العملية التفاوضية مع إسرائيل، والشروع في إعادة بناء نظامهم السياسي، وتحجيم الاستفراد الأمريكي بملف المفاوضات وتفعيل دور الأمم المتحدة و"الرباعية الدولية"، الخاصة بالشرق الأوسط.
ويصل التغير المفترض إلى إعادة النظر بمجمل ما ترتب على العملية التفاوضية، التي انطلقت في أوسلو عام 1993، وأهم ما يشمله التغيير:
رفض بقاء مستوطنات إسرائيلية على المناطق الفلسطينية المحتلة عام 1967، بما يعني ضمنياً نقض مبدأ تبادل الأراضي الذي صار من المسلمات في جولات المفاوضات، بعد مؤتمر "كامب ديفيد 2"، في تموز/ يوليو عام 2000.
وقف التنسيق الأمني مع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، الذي أصبح ثابتاً من ثوابت العلاقة بين السلطة والحكومات الإسرائيلية منذ مذكرة تفاهم "واي ريفر" التي وقعت في واشنطن، بتاريخ 23 تشرين الأول/أكتوبر 1998، إذ يفرض ملحقها الأمني على السلطة الفلسطينية، إلى جانب التصدي لعمليات المقاومة الفلسطينية في مناطق سيطرتها (المنطقة "أ "حسب تقسيمات أوسلو)، أن تكون مسؤولة أيضاً عن أي عمل مقاوم ضد جيش الاحتلال الإسرائيلي أو المستوطنين، حتى لو انطلق من خارج المناطق التي تسيطر عليها الأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية، المنطقتين "ب" و "ج" حسب تقسيمات أوسلو، وتفكيك الأجنحة العسكرية لفصائل المقاومة الفلسطينية. وشدّدت إسرائيل من شروطها الأمنية، بدعم من الولايات المتحدة، بعد اجتياح القوات الإسرائيلية لمناطق السلطة الفلسطينية في أذار/مارس عام 2002، فيما سمي إسرائيلياً بـ "عملية السور الواقي".
مقاطعة البضائع الإسرائيلية خطوة عملية تُخضع "برتوكول باريس الاقتصادي"، الموقع بين ممثلين عن منظمة التحرير والحكومة الإسرائيلية عام 1994 وألحق باتفاق أوسلو، للفحص والتدقيق لإزالة شيء من الغبن الذي ألحقته بالفلسطينيين.
التوجه إلى المحكمة الجنائية الدولية يفتح معركة قانونية مع الاحتلال الإسرائيلي، سيغير من قواعد الاشتباك السياسي، وسيشكل إحراجاً لإسرائيل والولايات المتحدة. وإعادة ملف المفاوضات إلى عهدة الأمم المتحدة يؤسس لإنهاء الاستحواذ الأمريكي المفروض على رعاية المفاوضات، والعودة إلى منطق الحلول الدولية المتوازنة.
معالجة ملف المصالحة الفلسطينية، والعمل على نجاح الجهود المبذولة، يرأب الصدع في الصف الفلسطيني وينهي الانقسام، ويمكِّن الفلسطينيين من أن يقدموا أنفسهم كموحدين سياسياً، وأن يعملوا على كسر الحصار الإسرائيلي الشامل على قطاع غزة، وتجديد شرعية مؤسساتهم الدستورية من خلال الاحتكام لصناديق الاقتراع.
إلا أن تنفيذ قرارات المجلس المركزي الفلسطيني سيصطدم بإجراءات وضغوط إسرائيلية وأمريكية مؤثرة وكبيرة، صمود الفلسطينيين أمامها سيحدد ما إذا كانت تلك القرارات تؤسس لاستراتيجية فلسطينية جديدة، أم أن التوافق عليها أملته تقاطعات تكتيكية، يهدف البعض من خلالها للتأثير في الانتخابات التشريعية الإسرائيلية القادمة، وتحسين شروط التفاوض في المرحلة القادمة.
(المقالة تعبر عن رأي كاتبها)