نال مخيم اليرموك غير مرَّة نصيبه من تداعيات الصراع الدموي في سورية، حيث كان مسرحاً لجولات من المعارك الطاحنة، بين الجيش النظامي وفصائل المعارضة المختلفة، وعانى سكانه من ويلات التهجير والحصار، إلا أن الجولة الأخيرة من القتال، إثر سيطرة مقاتلي تنظيم (داعش) على معظم أحياء المخيم، من شأنها اذا ما أحكم الدواعش سيطرتهم عليه أن يفككوا بشكل كامل النسيج المجتمعي لأبناء المخيم، بتهجير القلة القليلة التي بقيت داخله.
ما يريده الدواعش من وراء احتلال مخيم اليرموك يكثفه شريط فيديو قصير، نشر على (يوتيوب)، يظهر فيه عدد منهم بعد سيطرتهم على مخيم اليرموك وهم ينزلون العلم الفلسطيني، ويدوسونه بالأقدام، وفي وسطهم أحد قادتهم الميدانيين يصف العلم بأنه (علم فتنة)، ويشتم من رفعوه، ويطلب من عناصره أن يرفعوا علم (داعش) فقط، وأن يحرقوا العلم الفلسطيني.
وأتبع الدواعش هذا الفيديو بنشر شريط آخر يصور قطع رؤوس شباب ورجال من المخيم، بتهمة مقاومة تنظيم (داعش) ومحاولة منعه من السيطرة على المخيم، وهي تهمة يُركِبُ عليها سفاحو هذا التنظيم الإرهابي المتطرف تهمتي (التكفير والارتداد عن الإسلام)، والدين الإسلامي براء منهم ومن جرائمهم وأفعالهم النكراء.. مشاهد قاسية يتعمد الدواعش نشرها لإرهاب من يرفضون ممارساتهم الدموية، وسبقتها مشاهد ربما تكون نظيرة بقسوتها أو أشد، في سورية والعراق وليبيا، إلا أن جرائم الإعدام التي نفذوها في مخيم اليرموك لها رمزية خطيرة، بتوجيهها إلى رقاب كل من ينتمي إلى فصيل فلسطيني أو يرفع علم فلسطين، بصرف النظر عن الايدلوجيا التي يتبناها هذا الفصيل أو ذاك.
فالفلسطيني في عرف القتلة الدواعش مستهدف لأنه ينتمي لفلسطين، التي لا تعني شيئاً بالنسبة لهم، علماً بأن تنكرهم للقضية الفلسطينية غير مأسوف عليه، لأنه يسيء إلى عدالتها ومشروعيتها، مثلما أساء الدواعش للعقيدة الإسلامية وشوهوا صورة المسلمين.
كما أن استباحه مجرمي (داعش) لمخيم اليرموك يستهدف المكانة السياسية والقانونية للاجئين الفلسطينيين في أماكن اللجوء والشتات، فمخيم اليرموك كان ينظر إليه دائماً كعاصمة للاجئين الفلسطينيين، منه خرجت أفواج من الرعيل الأول والثاني والثالث في الثورة الفلسطينية، وقدَّم أبناء مخيم اليرموك آلاف الشهداء والجرحى لتثبيت الحقوق الوطنية الفلسطينية، لذلك استحق هذا الوصف. والمس بمخيم اليرموك ومكانته، من خلال السعي إلى تفكيك البينية الاجتماعية للمخيم، عبر استكمال تهجير أبنائه بشكل كامل، سيلحق ضرراً بالغاً بالقضية الفلسطينية، لاسيما ما يتعلق بحقوق اللاجئين في مخيمات الشتات.
يذكر أن تنظيمي (داعش) و(جبهة النصرة) عملا منذ بداية الأحداث المسلحة في سورية على توريط الفلسطينيين في أبناء مخيم اليرموك، إلا أن الأغلبية الساحقة منهم بقيت تطالب باحترام خصوصية وضع اللاجئين الفلسطينيين، ووضعهم على الحياد، لكن تلك المطالبات ذهبت أدراج الرياح، وتمت نهاية عام 2012 السيطرة على المخيم من قبل مجموعات تابعة للمعارضة السورية المسلحة، إلى جانب مجموعات فلسطينية محدودة العدد ومتعاطفة معها، إلى أن استباحه مؤخراً تنظيم (داعش) بتواطؤ مكشوف من جانب (جبهة النصرة).
قناع جديد يسقط عن وجوه الدواعش ومعهم أتباع (جبهة النصرة)، وسنكون على موعد مع سقوط أقنعة أخرى في المستقبل القريب، قبل أن تتم محاصرة ظاهرة التطرف والإرهاب، ومن هذا الحيز، إن انكشاف حقيقة موقف تنظيم (داعش) حيال القضية الفلسطينية يسقط من يده مستقبلاً استخدامها للمزايدة الإعلامية، ويوَّحد الفلسطينيين في مواجهته بما يحصن صفهم من اختراق الدواعش وفكرهم ونهجهم الدموي التكفيري.
ويرتب احتلال (داعش) لمخيم اليرموك مسؤولية خاصة على عاتق المجتمع الدولي، تملي تحركاً جدياً وسريعاً لحماية اللاجئين الفلسطينيين، الذين تتحمل الأمم المتحدة مسؤولية خاصة إزاءهم، عبر وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا).
وأي مواقف غير واضحة وشفافة في التصدي لتنظيم (داعش) ستشجعه على ارتكاب مجازر جديدة، بحق الفلسطينيين والسوريين والعراقيين، وبمقدور الفلسطينيين أن يعطوا مثالاً يقتدى به إذا ما توحدوا ضد (داعش)، الذي استغل حالة الانقسام وتشتت القدرات والامكانيات في الساحة الفلسطينية.
ومثلما أن استباحة اليرموك يكتسب رمزية خاصة، إن هزيمة الدواعش ودحرهم في معركة اليرموك سيكون لها رمزية كرمزية معركة (كوباني)، بل ربما أكبر بكثير لخصوصية القضية الفلسطينية، وما يمثله مخيم اليرموك من مكانة اعتبارية.