انطلاق مباحثات "جنيف3" بين أطراف من المعارضة ووفد للحكومة السورية بالإضافة إلى ممثلين عن المجتمع المدني، في المقر الأوروبي للأمم المتحدة في العاصمة السويسرية، لن يستحوذ على تغطيات ومتابعات إعلامية ساخنة، على عكس مباحثات "جنيف1" و"جنيف2"، نظراً للآلية التي ستجرى فيها المباحثات، والفترة الزمنية التي ستستغرقها، وعدم طرح أوراق عمل أو مبادرات محددة، فضلاً عن مستوى التمثيل المنخفض للوفود والصلاحيات الممنوحة لها.
المباحثات خطط لها أن تكون استكشافية، للبحث عن نقطة توازن، كمنصة لإعادة إطلاق جهود التسوية السياسية، بوساطة المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، ولن تشتمل المباحثات على لقاءات مباشرة بين أطراف المعارضة، المشاركة في المباحثات، وبين وفد الحكومة السورية، بل ستقتصر على جلسات غير مباشرة، يتولى فيها ميستورا ومساعدوه نقل الأفكار والأسئلة والردود بين الجهتين.
كما أن الفترة المحددة لإنجاز المباحثات طويلة نسبياً، من المقدر لها أن تستمر ما بين خمسة وستة أسابيع، في مرحلة أولى قابلة للتمديد، ولا يُعرف ما إذا كان سيطرح في مرحلة قادمة من المباحثات رفع مستوى التمثيل، وتوسيع دائرة مشاركة الدول المعنية بعقد مؤتمر "جنيف 3"، إلى جانب قوى دولية وإقليمية فاعلة في ملف الأزمة السورية.
وحسب الإجراءات المعلن عنها، لن تكون هناك بيانات أو تصريحات أو مؤتمرات صحفية، باستثناء تغطيات محدودة ومنتقاة من قبل المكتب الإعلامي للأمم المتحدة، الأمر الذي سيزيد من ضعف الاهتمام الإعلامي بالمباحثات، لكن وبصرف النظر عن هذه الإجراءات، يلعب التصعيد العسكري الميداني على الأرض، في العديد من الجبهات، دوراً كبيراً في عدم تسليط الأضواء الإعلامية من مباحثات "جنيف3"، في ظل ازدياد بورصة المراهنات لدى أكثر من طرف على أن التطورات الميدانية ستحدد نتائج مباحثات "جنيف3"، وأن طول مدة المباحثات سيحولها، في شكل أو آخر، إلى عملية جس نبض وعض أصابع، بينما تتسع رقعة المعارك وترتفع وتيرتها، ويسعى كل طرف إلى تحقيق مكاسب وازنة يلقي بها في كفته بالمباحثات.
من هذه الزاوية يخشى أن تتعامل بعض أطراف الصراع مع المباحثات كتحصيل حاصل لصدى المعارك، واللجوء إلى اتخاذ مواقف انتظاريه، وبالتالي عدم اعطاء "جنيف3" ما ينبغي له من اهتمام، باعتباره محطة تمهد للعودة إلى مسار البحث عن تسوية سياسية للصراع، أساسها وضع تصورات لتطبيق بيان "جنيف1"، الذي صدر في 30 حزيران (يونيو) 2012 وفشل مؤتمر "جنيف2" في حل الخلافات حول تفسير بعض بنوده، ولم يفلح المتحاورون في تجاوز هذه العقبة الكبيرة خلال اللقاءين التشاوريين اللذين دعت لهما واستضافتهما موسكو.
ومثل هكذا مواقف ستجعل من الصعب البحث عن نقطة التوازن المطلوبة، لتطبيق البيان الصادر عن مؤتمر "جنيف1"، ناهيك عن البون الشاسع بين رؤى ومواقف الدول الكبرى، والقوى الإقليمية الفاعلة، إزاء كيفية العمل به وتطبيقه.
وعليه؛ إن نجاح المباحثات يتوقف على حسم مبدأ قبول تسوية سياسية، والاقتناع بأن المراهنة على الحلول العسكرية والأمنية مراهنة خاسرة، لأن كل السوريين سيدفعون بنتيجتها ثمناً باهظاً، وفي نهاية المطاف لا مناص من الذهاب إلى تسوية متوازنة، مما يجعل البحث (مكاسب) عسكرية على الأرض، بينما تجري المباحثات، عملاً غير مبرر ولا يجدي، لاسيما إذا اقتنعت أطراف الأزمة بالتسوية، ونضع كلمة مكاسب بين قوسين، لأنه قد يكون من المتعذر أن تصرف كلها في (بازار) السياسة، عندما تنضج الظروف للوصول إلى تسوية.
فمن جهة لا يمكن أن تعود الأوضاع السياسية في سورية إلى ما قبل عام 2011، وفي الوقت عينه لا يمكن لأي تسوية سياسية أن تكون قابلة للحياة، وأن تحل الأزمة من جذورها، إلا إذا كفلت مصالح وحقوق كل مكونات الشعب السوري، في دولة مواطنة، وديمقراطية وتعددية حزبية، وتداول سلمي للسلطة عبر صناديق الاقتراع.
وهذه هي نقطة التوازن التي يجب أن يسلَّم الجميع بها، والتسليم بها سيخفف من حجم فاتورة الدم التي يدفعها الشعب السوري، جراء الصراع المسلح، ويوفر أهم مستلزمات نجاح "جنيف3"، ويحمي سورية من الوقوع في فخ هدم مؤسسات الدولة وإداراتها، مثلما وقع في العراق، إبان الاحتلال الأميركي، وليبيا واليمن، ويحول دون التدخلات الخارجية.