سلَّطت أزمة المهاجرين في جنوب شرق آسيا الضوء على المعاناة المأساوية لأبناء أقلية الروهينغا في بورما (ميانمار)، الذين يشكلَّون النسبة الأكبر من المهاجرين غير الشرعيين إلى تايلند واندونيسيا وماليزيا، وغالبيتهم يهيمون اليوم على وجوههم في البحر في قوارب موت متهالكة، بسبب تخلي المهربين عنهم، بعد تشديد إجراءات مراقبة المياه الإقليمية من قبل البلدان الثلاثة، وسماح إندونيسيا وماليزيا لأعداد قليلة من المهاجرين بالنزول إلى الشاطئ مؤقتاً، سبعة آلاف مهاجر فقط، ورفض تايلند استقبالهم بتاتا، بينما مازالت الحكومة البورمية على تعنتها في الاستمرار بتطبيق الإجراءات التمييزية بحقهم، بسبب انتمائهم الديني، كأقلية مسلمة لا تتمتع بأي من حقوق المواطنة التي يتمتع بها أبناء الغالبية البوذية.
من جانبه اكتفى المجتمع الدولي حتى الآن بتوجيه انتقادات خجولة للسلطات في بورما، لكن الأخيرة تضرب بتلك الانتقادات عرض الحائط، إذ رفضت الحكومة البورمية طلباً قدمته لها الأمم المتحدة مؤخراً يحثها على ضرورة أن تتحمل مسؤولياتها بالكامل حيال جميع سكانها وخصوصاً الروهينغا، الذين تعتبرهم السلطات البورمية مهاجرين غير شرعيين من بنغلادش، في مخالفة لوقائع التاريخ والجغرافيا، التي تؤكد انتماء الروهينغا لمناطق سكنهم على أراضي بورما، كمواطنين بورميين أصليين على قدم المساواة مع البوذيين، فولاية راخين (أراكان) البورمية يقيم فيها المسلمون البورميون (الروهينغا) كمواطنين وأصحاب أرض منذ مئات السنين.
وشهدت أوضاع أقلية الروهينغا منذ أيار (مايو) عام 2012 تدهوراً كبيراً، حيث ارتكبت بحقهم جرائم إبادة وتطهير عرقي، على يد جماعات بوذية متطرفة، حظيت بتغطية وحماية حكومية لقيت إدانة دولية واسعة، إلا أن ردود فعل المجتمع الدولي وقفت عند حد الإدانات اللفظية من غير خطوات عملية للضغط على نظام الحكم في بورما، مما شجع السلطات البورمية على زيادة منسوب خطابها العنصري التحريضي، الذي يسقط عن المسلمين "الروهينغا" حقوق المواطنة، ويتعامل معهم كمهاجرين غير شرعيين يجب ترحيلهم إلى دول الجوار.
الغريب في الأمر أن تُمارس مثل هكذا سياسات من قبل حكومة بورمية منتخبة عبر عملية ديمقراطية، أنعشت في وقتها الآمال بأن بورما مقبلة على عهد جديد ومختلف عما سبقه، يتم فيه إنصاف أقلية الروهينغا ورفع الضيم عنها، ومحاسبة المسؤولين عن ارتكاب جرائم التطهير العرقي والتحريض عليها، ومعالجة أسباب خطاب الكراهية والشحن العنصري ووضع حد له، إلا أن الحكومة البورمية خيبت كل الآمال التي عُقدت عليها، بانتهاجها السياسات ذاتها التي سارت عليها الحكومات العسكرية طوال أكثر من نصف قرن، بعدم إبداء أي شكل من أشكال التسامح مع الأقليات، وخاصة الأقلية المسلمة (الروهينغا)، التي حرم أتباعها من ممارسة شعائرهم الدينية، وطمست هويتهم القومية والإسلامية، وصودرت ممتلكاتهم، وذاقوا الأمرين من محاولات إجبارهم على الذوبان في مجتمع الأغلبية البوذية، وتم فرض قانون صارم عليهم لتحديد النسل، وطردهم من الوظائف الحكومية، وحُظر عليهم التعليم والاستفادة من الخدمات الاجتماعية والصحية لمرافق الدولة.
إن مأساة الروهنغا تعدو كونها مجرد قضية أقلية دينية وعرقية مضطهدة في بورما، بل قد تشكل صاعق تفجير لصراعات طاحنة في منطقة جنوب شرق آسيا على نطاق واسع، فكون الروهينغا أقلية مسلمة في بورما (ميانمار) يقابله وجود أقليات بوذية في اندونيسيا وماليزيا وبنغلادش ذات الغالبية المسلمة، وهو ما يفرض على الحكومة البورمية إعادة النظر في سياساتها بحق الأقلية المسلمة في البلاد، ولتثبيت السلم الأهلي لابد من اعتماد الحوار بين معتنقي الديانتين كحتمية لمحاصرة الأفكار المتطرفة في صفوف الفريقين، والعودة إلى مبادئ التعايش السلمي بمعالجة العوامل الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتاريخية، التي تشحن العداء والعنف.
وعلى ضوء تصلب الحكومة البورمية في مواقفها لا غنى عن خطوات ضاغطة عليها من جانب المجتمع الدولي، كي تستجيب لنداءات الأمم المتحدة بتطبيق القوانين والالتزام بتعهداتها وواجباتها الدستورية بحماية ورعاية كل المواطنين البورميين، وخاصة أبناء الأقليات الخاضعين للاضطهاد، وأي فشل في هذه المهمة إخفاق أخلاقي للحكومة البورمية وللمجتمع الدولي، أثاره ونتائجه ستعاني منها العديد من مجتمعات جنوب شرق آسيا، ما يفرض تدخل الأمم المتحدة بفاعلية قبل فوات الأوان.