صار بحكم العادة أنه لا أحد ينتظر ردود الفعل الإسرائيلية على تقارير لجان التحقيق الدولية، أو على القرارات والتوصيات والبيانات التي تصدر عن هيئة الأمم المتحدة، أو عن المنظمات والمؤسسات والوكالات التابعة لها، فالرد الإسرائيلي يجتر كيل الاتهامات للأمم المتحدة بالانحياز وعدم المصداقية، ولم يختلف رد تل أبيب على تقرير اللجنة الدولية الخاصة للتحقيق في مجريات الحرب الإسرائيلية على غزة، صيف العام الماضي، عن ردودها على تقارير اللجان السابقة التي حققت في حربي 2008-2009 و2012، وما سبقهما من مجازر وهجمات، حيث رفضت الحكومة الإسرائيلية بداية التعامل مع لجان التحقيق، وشككت بعدها بتقارير اللجان وبمصداقيتها، وبمصداقية مجلس حقوق الإنسان وهيئة الأمم المتحدة والمجتمع الدولي ككل.
الحكومة الإسرائيلية حاولت نزع المصداقية عن تقرير اللجنة من مدخل أن أعضاء اللجنة لم يكونوا موجودين على الأرض، رغم أن رفض تعاون إسرائيل مع اللجنة يدين حكومة نتنياهو بمحاولة إخفاء جرائم الحرب المرتكبة ضد المدنيين الفلسطينيين ومؤسسات (الأونروا) العزل في قطاع غزة، كما تتجاهل أن التقرير، وفقاً لما أكدته رئيسة لجنة التحقيق، ماري مكغيوان، استند في جزء كبير منه إلى "التقارير والوثائق التي نشرتها الحكومة الإسرائيلية على شبكة الإنترنت خلال السنة الأخيرة". وأضافت رئيسة لجنة التحقيق في مقابلة مع صحيفة (هآرتس) الإسرائيلية بتاريخ 24/6/2015: "استخدمنا الكثير من المواد التي نشرتها إسرائيل على الإنترنت، وقد عرض التقرير وجهة النظر الإسرائيلية".
الذريعة الثانية التي استندت إليها إسرائيل، في محاولة نزع المصداقية عن لجنة التحقيق، ادعاء حكومة نتنياهو أن التقرير وازن بين ما قامت به إسرائيل وما قامت به حركة حماس، ومن وجهة نظر الحكومة الإسرائيلية "لا يجوز مقارنة (حركة إرهابية) بـ(دولة) معترف بها دولياً". وردَّت مكغيوان على هذه الذريعة، في المقابلة مع الصحيفة ذاتها، بالقول: "مهمتنا ليست إجراء تحقيق أخلاقي بل فحص هل كان ما جرى انتهاكاً للقانون الدولي. لم نحاول الموازنة بأي صورة من الصور، ولكننا فحصنا ببساطة ما فعله الطرفان، ومدى التزامهما بالقانون الدولي".
وفي السياق؛ وجهت مكغيوان صفعة موجعة لحكومة نتنياهو، ففي ردها على سؤال حول توجه الفلسطينيين إلى محكمة الجنايات الدولية قالت بما لا لبس فيه: "لقد أوضحنا في التقرير أن على المجتمع الدولي دعم المحكمة الجنائية الدولية، التي تقوم في الفترة الحالية بدارسة الوضع في المناطق الفلسطينية".
بيّْد أن ما يزعج الحكومة الإسرائيلية أكثر وجود إسرائيليين يرون أن إسرائيل وضعت نفسها بنفسها في قفص الاتهام، ويشكِّل هؤلاء نسبة ليست ضئيلة، عبَّرت عن وجهة نظرهم صحيفة (هآرتس) في افتتاحيتها بتاريخ 24/6/2015، ترجمة مؤسسة الدراسات الفلسطينية، حيث سخرت الصحيفة من تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، التي حاول فيها أن يقلل من قيمة تقرير لجنة التحقيق الدولية، وعبَّرت الصحيفة عن ذلك بتذكير نتنياهو بأن "إسرائيل موجودة فعلاً اليوم في ذروة حملة لنزع الشرعية عنها لكونها دولة احتلال منذ 48 عاماً، أي منذ عام 1967، لكن ردها على التقرير يشير إلى أنها لا تدرك حال مكانتها وموقعها. ففي نظرها الأمم المتحدة مذنبة لأنها قررت التحقيق، وموظفوها يكرهون إسرائيل.."
وأردفت الصحيفة في لهجة لا تخلو الإدانة: "لا يحق لرئيس الحكومة أن يهز كتفيه بلامبالاة تجاه هذا التقرير القاسي، ويتنكر له كما لو أنه مجرد إزعاج غير مهم، فالصراع الدائر لا يتعلق فقط ببراءة إسرائيل في نظر المجتمع الدولي، وخصوصاً في نظر محكمة الجنايات الدولية، بل إنه يضع إسرائيل أمام مرآة حتى لو كانت تشكو من عيوب، ويجب أن تثير القلق الشديد لدى كل مواطن ما يزال يعتقد أن الجيش الإسرائيلي هو جيش أخلاقي، وأن الدولة ليست تنظيماً إرهابياً، وأنه يتعين عليها أن تتصرف وفقاً لقواعد الحرب، خاصة ضد المدنيين..".
نصيحة تسديها الصحيفة للحكومة الإسرائيلية في ختام افتتاحيتها وهي "إسرائيل ليست بحاجة إلى الدعاية والتبريرات الهزيلة، بل هي بحاجة إلى إصلاح عميق لعقيدتها الأخلاقية العسكرية.."، لكنها بالتأكيد لن تجد آذاناً صاغية لدى نتنياهو وائتلافه الحكومي المتطرف، الذي يجد نفسه اليوم، وإلى جانبه قادة وجنود الجيش الإسرائيلي، أمام قفص الاتهام بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، بينما هناك إسرائيليون يعتقدون بأن قفص الاتهام فاتورة مستحقة.