طرحت الفيدرالية في سبعينيات القرن الماضي كخيار مفضل لدى القوى اليمينية اللبنانية، أو تلك التي كانت توصف ب،(الانعزالية)، واستمرت الفيدرالية موضوعة على الطاولة ما يقارب عقدين من الزمن، إلى أن اصطدمت هذه الفكرة بالحائط في "اتفاق الطائف" عام 1989، بتجديد الميثاقية الدستورية، من خلال التأكيد على إقامة نظام جمهوري برلماني ديمقراطي، ومبدأ المناصفة في عدد مقاعد مجلس النواب بين المسيحيين والمسلمين، والحفاظ على لبنان ومؤسساته ككيان موحد، ووحدة الشعب اللبناني وأرضه، وأن لا شرعية لأي سلطة تناقض مبدأ العيش المشترك.
وترتب على "ميثاقية اتفاق الطائف" إعادة النظر في توزيع الصلاحيات بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، بنقل صلاحيات السلطة الإجرائية إلى مجلس الوزراء، كونه يعكس في تمثيله مكونات المجتمع اللبناني، ووضع جملة من الأهداف في مقدمتها بناء دولة مؤسسات متوازنة، تعبِّر عن الشراكة بين كل المواطنين اللبنانيين، بمختلف انتماءاتهم الطائفية، وصولاً إلى إلغاء الطائفية السياسية.. الخ.
إلا أن "اتفاق الطائف" تحوّل بحد ذاته إلى نقطة خلافية، بعد أكثر من ربع قرن على توقيعه والعمل به، فالعديد من المبادئ التي حددها الاتفاق لم يتم العمل بها، وتتقاذف القوى السياسية الاتهامات حول المسؤولية عن انحرافات في تطبيق بنود أخرى، وزاد في الطين بلة أزمة الفراغ الرئاسي، بمغادرة الرئيس السابق ميشال سليمان قصر بعبدا لانتهاء ولايته الرئاسية في الصيف الماضي، وفشل مجلس النواب اللبناني في عقد جلسة مكتملة النصاب لانتخاب رئيس جديد خلفاً لسليمان.
وكان من تداعيات الصراع السياسي على الانتخابات الرئاسية إحياء زعيم التيار الوطني الحر، العماد ميشال عون، فكرة الفيدرالية، جنباً إلى جنب مع مطالبته بمراجعة ميثاقية "اتفاق الطائف"، بغية إعطاء صلاحيات أكبر لرئيس الجمهورية، ووضع قانون انتخابي جديد، يقسم لبنان إلى دوائر انتخابية مذهبية من لون واحد، وعدد من المطالب الأخرى المرتبطة بالمطالب المذكورة وتكملها.
وأرفق العماد عون تحركاته السياسية بالدعوة إلى تحرك شعبي ضاغط، حاول بضع مئات من أنصاره اقتحام مبنى رئاسة الوزراء، ضمن مخطط للتصعيد، لولا أن العماد عون قوبل بكتف بارد من حلفائه في "قوى 8 آذار"، برفضهم لفكرة الفيدرالية قطعياً، وكذلك مسألة النزول إلى الشارع أو أي حراك قد يفهم منه محاولة إسقاط حكومة الرئيس تمام سلام، لأن سقوطها سيدخل لبنان في حالة فراغ دستوري مطبق، وشلل كل المؤسسات الدستورية، مما سيقود إلى فوضى سياسية وأمنية عارمة، في وقت يواجه في لبنان معضلة الفراغ الرئاسي، والخوف من تداعيات الأزمة السورية على أمنه واستقراره.
في تحليل خطوة العماد عون، والأهداف التي كان يتوخاها من ورائها، الأقرب إلى المنطق هو أن عون أراد خض الساحة السياسية اللبنانية، واختبار حلفائه قبل خصومه السياسيين، لتحريك مياه الانتخابات الرئاسية الراكدة، وتبعاً لها الضغط لصالحه في ملف انتخاب قائد جديد للجيش اللبناني، حيث يقف عون بقوة وراء ترشيح صهره العميد شامل روكز، غير أن نتائج حراكه السياسي وحراك أنصاره في الشارع جاءت مخيبة لآماله، وهي نتائج منطقية لم يكن ليغفل عون عن توقعها لو قرأ المعادلة السياسية الداخلية والإقليمية بشكل صحيح.
وبقطع النظر عن الحسابات التي اعتمدها عون لوضع الفيدرالية على الطاولة، والتحرك في الشارع ضد حكومة تمام سلام، إن الطرح والتحرك خاطئ من حيث المبدأ، فالمشكلة لا تكمن في نصوص "اتفاق الطائف"، بل في عدم تنفيذ بنود أساسية من الاتفاق، رغم الكثير من الثغرات التي شابت متن الاتفاق، والتي بالتأكيد بحاجه إلى معالجة، من خلال تطويرات على نص "اتفاق الطائف".
كما أن الشرخ العميق بين القوى السياسية اللبنانية المختلفة عرقل عمل المؤسسات الدستورية، وعطَّلها في العديد من المحطات، والخروج من الدائرة المفرغة للانقسامات الحزبية- المذهبية يجعل من إلغاء الطائفية السياسية مطلباً ملحاً، كأساس لبناء مؤسسات دولة مؤسسات تؤمن الشراكة بين الجميع والأمن والاستقرار.
وفي كل الأحوال لن يكون طرح الفيدرالية من قبل العماد ميشال عون، من ثم تراجعه عنها، هي الجولة الأخيرة لمثل هكذا فكرة تعشش في عقول العديد من السياسيين اللبنانيين منذ عقود، فخسارة معتنقيها لجولة ثانية أو ثالثة لن يمنعهم من خوض جولات أخرى في المستقبل، كلما وضع النظام السياسي اللبناني أمام استعصاء إنجاز استحقاق دستوري، وإن كانت الجولات القادمة أصعب وحظوظ نجاحها أقل بكثير، بل شبه معدومة لتعارضها مع خيارات الغالبية الساحقة من الشعب اللبناني.