نصف الطريق نحو حل الصراعات، حتى وإن كانت معقدة ومتشعبة، يتمثل في قبول كلا الأطراف مبدأ الحوار، والنصف الثاني يكمن في الاتفاق على مبادئ وأسس وغايات الحوار والتعهد بالالتزام بمخرجات الحوار وتنفيذها، مقولة يتفق معها كثيرون لأنهم يؤمنون بأن وصول الأزمات إلى العنف والعنف المضاد ليس قدراً، ويختلف معها آخرون تحت حجج وذرائع لتبرير لا منطق التعويل على (الحلول الأمنية والعسكرية)، رغم أن هذه (الحلول) جرِّبت وقادت إلى نتائج كارثية في بعض البلدان، وبالتالي يفترض الاستفادة من التجارب والتعلم منها.
افتراض بقي بعيداً عن المجريات على الأرض في الأزمات العربية، ولذلك لم يكن في حسابات أطراف الصراع البحث عن تسويات متوازنة بوسائل سلمية، وبصرف النظر عن مقدار المسؤولية التي يتحملها هذا الطرف أو ذاك، يتقاسم الجميع نتائج الصراع كغرماء، لأن الشعوب هي الخاسر الأكبر في الحصيلة الإجمالية، وفي تجارب كثيرة غالباً ما تفقد القوى المنخرطة فيها مواقعها بعد نهاية الأزمات الدموية، بصعود قوى أخرى إلى دائرة التأثير، كمثال على ذلك ما وقع في لبنان بعد نهاية الحرب الأهلية، سواء في الصف المسيحي أو الإسلامي.
لكن إذا ما أخذنا المثال اللبناني من زاوية أخرى، نجد أن تغيير ميزان القوى السياسي لم يغير من حقيقة حاجة اللبنانيين إلى الحوار كمخرج وحيد، بصرف النظر عن صعود قوى حديثة العهد نسبياً على حساب قوى تصنف كتاريخية، في المعادلة السياسية اللبنانية منذ الاستقلال عن فرنسا. ومن غير الحوار سيبقى لبنان يعيش حالة استقطاب حادة، وفراغ في أعلى قمة الهرم السياسي، ببقاء كرسي رئاسة الجمهورية شاغراً، وعدم إجراء انتخابات جديدة لمجلس النواب، مستحقة لكن جرى التمديد لمجلس النواب الحالي كـ"أهون الشرور"، على حد وصف أحد السياسيين اللبنانيين المخضرمين، حيث أقر المجلس في تشرين الثاني (نوفمبر) 2014 التمديد لنفسه حتى 20 حزيران (يونيو) 2017.
ولا تقتصر معضلة تغييب الحوار في البلدان التي تعاني من صراعات مسلحة، مثل سورية والعراق وليبيا واليمن، بل تمتد إلى بلدان أخرى تضرب كمثال على الاستقرار السياسي والأمني، أو على الأقل هي غير مرشحة لأزمات كبيرة أو اضطرابات على نطاق واسع. في الحالات السورية والليبية واليمنية ثمن تغييب الحوار استمرار الصراعات المسلحة، وسقوط المزيد من الضحايا وتدمير مقدرات البلاد، وإفساح المجال أمام التنظيمات المتطرفة، وأخطرها تنظيم (داعش) الذي يسيطر على مناطق واسعة من الأراضي السورية، وبات له وجود قوي في ليبيا، واستطاع مؤخراً أن يفرض سطوته على بعض مديريات حضرموت في اليمن.
وثمن تغييب الحوار في العراق الإبقاء على الانقسامات السياسية الحادة، المرشحة في مرحلة من المراحل إلى الانفجار إذا لم يتم وضع حد لها، كما أن الانقسامات تمنع توحيد جهود وطاقات وإمكانيات كل العراقيين في مواجهة تنظيم (داعش).
وفي الحالات الأربعة المذكورة لم تتوفر حتى الآن الأرضية المطلوبة للدخول في حوار شامل والوصول به إلى بر الأمان، لأنه وبافتراض صدق أطراف رئيسية في الصراع بخصوص الموافقة على الحوار، غير أنه لا يوجد ما يؤكد أن مواقف تلك الأطراف يمكن أن تشكل أرضية صلبة للاتفاق على مبادئ وأسس وغايات الحوار والتعهد بالالتزام بمخرجات الحوار وتنفيذها.
المغرب من البلدان العربية التي تصنف كمستقرة سياسياً وأمنياً، وأكدت نتائج الانتخابات الجهوية والبلدية التي أجريت في البلاد، يوم الجمعة الماضي، الحاجة إلى الحوار بين الأحزاب الثلاثة الكبرى، حزب العدالة "العدالة والتنمية" الذي يقود الائتلاف الحكومي وحزبي "الأصالة والمعاصرة" و"الاستقلال" المعارضين، وأكدت أيضاً ضرورة التعايش بين القوى السياسية الرئيسية، لكن التصريحات التي سبقت الانتخابات، والتي تلتها أيضاً، ذهبت إلى رفض مبدأ الحوار والتعايش في الهيئات الجهوية والبلدية، وهو ما يتعارض مع إرادة الناخبين، ومصلحة المغرب ككل، التي لم تعط حزباً واحداً الأغلبية.
ورفض الحوار والتعاون البناء بين القوى السياسية على ضوء النتائج لا يمثل فقط مخالفة لإرادة الناخبين، وإخلالاً بتعهد احترام نتائج الانتخابات، بل قد يشكِّل خطر على مستقبل الحياة السياسية برمتها، وعلى الهامش الديمقراطي الذي قادت إليه الإصلاحات الملكية التي قادت في سابقة من نوعها إلى مجيء حزب "العدالة والتنمية" إلى سدة رئاسة الوزراء.
ومما لا شك فيه أن البلدان المستقرة نسبياً تتشارك مع البلدان التي تعيش صراعات وأزمات في الحاجة إلى تغليب الحوار وليس تغييبه، لأن الحوار يظل الضامن الوحيد لحل الصراعات والأزمات، وفي حالة الاستقرار يبقى الضامن للاستقرار السياسي والأمني والتطور وتجاوز المعوقات التي تعترض الإصلاح والتنمية السياسية والمجتمعية.