دق رئيس الاتحاد الأوروبي، دونالد تاسك، ناقوس خطر انهيار اتفاقية "شنغن" للحدود المفتوحة بين 26 بلداً أوروبياً، وعزا تاسك خطر انهيار الاتفاقية إلى تداعيات تدفق أعداد كبيرة من المهاجرين. ولم يعد الحديث عن مجرد مخاوف، فالعديد من البلدان الموقعة على الاتفاقية بدأت فعلاً تطبق مجموعة من الإجراءات لضبط الحدود ومراقبتها، وبقام بعضها البعض منها بنصب أسلاك شائكة لمنع المهاجرين من عبور الحدود، وأعلنت السويد يوم الثلاثاء الماضي أنها ستفرض رقابة على الحدود مع الدانمرك لمنع دخول المزيد من اللاجئين إلى أراضيها.
تصريحات تاسك جاءت مع انتهاء أعمال القمة الأوروبية- الأفريقية، التي انعقدت في العاصمة المالطية فاليتا، وشهدت اختلافات في وجهات النظر بين القادة الأوروبيين ونظرائهم الأفارقة، إزاء كيفية معالجة ظاهرة الهجرة غير الشرعية، والتعاون من أجل الحد منها، وتركزت الخلافات على وضع حلول للأسباب العميقة الكامنة وراء تزايد أعداد المهاجرين، الوصول إليها يتطلب حلولاً إستراتيجية مستدامة، مازالت بلدان الاتحاد الأوروبي بعيدة عن الانخراط فيها بالمستوى المطلوب.
إن ما يدفع البشر إلى الهجرة من أوطانهم، وإنفاق كل مدخراتهم والمغامرة بحياتهم، هو البحث عن الأمن والاستقرار وحياة كريمة من الصعب أن تتحقق لهم في بلدانهم، وفي الأعوام الثلاثة الأخيرة تضاعفت أعداد المهاجرين في ظاهرة غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية، نتيجة الحرب الدموية في سورية والعراق، واستمرار الأوضاع المتدهورة في بلدان مثل أفغانستان والصومال وأرتيريا وجنوب السودان، والفقر والفاقة في معظم الأفريقية، والحالة الأخيرة استحوذت على الاهتمام الأكبر في القمة الأوروبية- الأفريقية.
القادة الأوروبيون والأفارقة اتفقوا على أن الإجراءات الأمنية لن تحول دون استمرار تدفق المهاجرين إلى بلدان الاتحاد الأوروبي، وأن أي نجاحات مؤقتة لن تلبث تتبدد، فالمهاجرون سيجدون طرقاً جديدة للوصول إلى بلدان المهجر. لكن إذا ما مددنا ما سبق إلى نهاياته، وهو ما تجاهله للأسف القادة الأوروبيون، إن ما يمكن المراهنة عليه هو وضع حلول إستراتيجية شاملة وبعيدة المدى، بإقامة شراكة أوروبية- أفريقية تمكن البلدان الأفريقية الفقيرة من تطوير مجتمعاتها عبر برامج تنمية مستدامة، كي ترفع عن كاهلها آثار الحقب الاستعمارية، التي نهبت فيها ثروات الشعوب، واستعبد أبناؤها ومنعوا من تقرير مصيرهم في أوطانهم، بينما راكمت الدول الاستعمارية ثروات طائلة، جلبت الرخاء للمجتمعات الأوروبية الغربية على حساب البلدان التي وضعت تحت الاستعمار.
وكدليل على التجاهل، في رؤيتها لوضع حلول شاملة، من وجهة نظرها، رصدت الدول الأوربية مبلغ 1.8 مليار يورو لتمويل خطط ومشاريع في القارة الأفريقية لتجفيف أسباب الهجرة غير الشرعية، الأمر الذي أثار انتقادات من قبل القادة الأفارقة المشاركين في القمة الأوروبية- الأفريقية، فالمبلغ أقرب إلى تقديم رشوة لحكومات الدول الأكثر تصديراً للمهاجرين، ولن يكون لأي خطط تبنى على هذا التمويل المحدود نتائج تستمر على المدى المتوسط أو البعيد، لأن علاج الأسباب العميقة للهجرة من البلدان الأفريقية غير ممكن إلا من خلال تنمية مستدامة، تكفلها خطط طويلة الأمد، وتستند إلى شراكة إستراتيجية بين البلدان الأوروبية والأفريقية، وما تحتاجه الأخيرة مشاريع استثمارية وليس مساعدات مالية غالباً ما تعود لتصب في طاحونة الاحتكارات المالية الغربية.
وفي المدى المباشر، إن وقف تدفق الأعداد الكبيرة من المهاجرين السوريين، والعراقيين والأفغان والأرتيريين والصوماليين، يتطلب من أوروبا أن تلعب دوراً أكبر في حل الأزمات في تلك البلدان بوسائل دبلوماسية، وهذا يشكل تحدياً كبيراً لبلدان الاتحاد الأوروبي، فأوروبا عملاق اقتصادي لكنها بالمقابل قزم سياسي، لأنها مازالت تلتحق ذيلياً بعجلة السياسات الخارجية الأميركية.
وما التحذير من خطر انهيار اتفاقية "شنغن" للحدود المفتوحة إلا مظهر من مظاهر الضعف الأوروبي، بينما يمكن لأوروبا أن تكون قوية عندما تتحمل الحكومات الأوروبية مسؤولياتها وتقوم بواجباتها، لكن تلك الحكومات مازالت تتجاهل الدور الأوروبي المطلوب لمعالجة الأسباب العميقة للهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، ولن ينج أي حل دون تصويب السياسات الأوروبية في التعامل مع هذه المسألة.