ومنذ التدخل الروسي في سوريا، تشهد السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط اهتزازا كبيرا، ولو لم تعد الولايات المتحدة النظر في ما تفعله، سيكون لذلك عواقب وخيمة، ولا يبدو أن الوضع سيستمر هكذا، وستواجه الولايات المتحدة هزائم متتالية على أصعدة كثيرة.
وخلال الفترة القصيرة التي شهدت التدخل الروسي على الجبهة السورية، بدا أن الحملة العسكرية للروس في سوريا قد ألقت بطوق النجاة للرئيس السوري بشار الأسد من ناحية، وأنها وجهت ضربة مباشرة أصابت السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط في مقتل. إضافة إلى ذلك، تمت لأول مرة مواجهة واضحة ومباشرة مع تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) بشكل عملي، بعيدا عن المواجهات الأمريكية المزيفة في السابق، وتكبد تنظيم "داعش" خسائر هائلة. وأدى هذا إلى إعادة ترتيب الأوضاع في المنطقة، وترتيب أولويات المصالح.
ولم يخف على أحد أن الوجود الروسي قد كشف التوجهات الحقيقة لدولة أردوغان، بعيدا عن التصريحات الناعمة للرئيس التركي، وتصاعدت وتيرة الأمور حتى وصلنا إلى لحظة إسقاط الطائرة الروسية، التي تعتبر بمثابة لحظة فارقة في توازنات الشرق الأوسط والعلاقات الروسية التركية.
صار واضحا الآن أن وتيرة الأحداث صارت أسرع وأشرس مما كان متوقعا، وأن حالة الهلع التي أصابت المعسكرات التي تكتلت ضد "الدب الروسي" قد أدت إلى مجموعة من القرارات الخاطئة التي تسببت في كوارث ومآسي متعددة في المنطقة. ولنتخيل مثلا حجم الفاقد في دخل العراق من جراء عملية سرقة البترول المتواصة منذ سنوات، وحجم الفاقد في دخل سوريا جراء نفس العمليات أيضا، إضافة طبعا إلى تزايد أعداد اللاجئين من دول المواجهة، والأهوال التي واجهوها ولا يزالوا، ناهيك عن عدد القتلى والجرحى. وبين كل ما ذكرناه، لا شيء يبشر بالخير، الخسائر تتواصل، الحرب في سوريا لا تنتهي، "داعش" مازالت موجودة، بدعم من دول كثيرة ترى الكوارث التي تسببت فيها ورغم ذلك تواصل سكب البنزين فوق النار المشتعلة.
ووسط كل هذا، رأينا دولا تنعي سقوط ضحايا من بين الإرهابيين، وتتهم روسيا أنها لا تستهدف قتال "داعش"، إنما تستهدف قتال المعارضة المعتدلة، أي معارضة معتدلة هناك في سوريا، فجبهة "النصرة" تابعة لتنظيم "القاعدة"، وكثير من الفصائل التابعة للمعارضة مرتزقة يمولون من إسرائيل والولايات المتحدة، ولا هدف لهم سوى تدمير سوريا وتاريخها، بل ومستقبلها أيضا.
كيف يمكن أن نصدق أناسا يدمرون الآثار، ويهربون ما تناله أيديهم من مقتنيات نادرة، ووثائق تاريخية، إلى من يدفع أكثر، أو إلى أولياء نعمتهم. وكل ما حدث منذ عام 2011، ومع تدخل الولايات المتحدة السافر في شؤون دول الشرق الأوسط، خاصة دول المواجهة مع إسرائيل، بهدف تدميرها وجعلها نهبا للصراعات والتمزق، كما حدث في ليبيا، سوريا، مصر تحديدا، فإن موقف الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط أصبح هشاً، بل يمكن القول إن موقفها صار معزولاً، وعلى المستوى الشعبي صار الإنسان العادي على يقين أن الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل يعبثون بحياته ومستقبله، ولم ينخدع في الصورة المثالية التي حاول أوباما رسمها منذ خطبته الشهيرة في جامعة القاهرة بمصر.
وهكذا تشهد السياسة الأمريكية احتضارا مؤكدا على كافة المستويات، نظرا لأن الإدارة الأمريكية لم تدرك بعد، أو يبدو كذلك، أن العالم تغير ولم يعد يقبل سيطرة القطب الواحد على مقدراته، وأن هناك أطرافا عديدة صارت أقوى وتبحث عن مصالحها كذلك. لا ينكر أحد أن العالم صار عبثيا على نحو مريع، كاذب من يدعي أن العالم مكان آمن للحياة، وأن التطور الحضاري جلب السعادة للبشر، خاصة مع ارتفاع معدلات الفقر والمرض، وزيادة الصراعات والعناء اليومي في الدول التي تستهدفها الولايات المتحدة الأمريكية لتحقيق منافع لها ومصالح استراتيجية، حتى أني سمعت رجلا يلعن اليوم الذي كتب عليه فيه أن يعيش في منطقة أطماع ينهشها القريب والغريب.
(المقالة تعبر عن رأي كاتبها)